أخبار مسرحية

أم كلثوم.. دروس إدارة الموهبة

مكاسب عديدة حققها تصدى القطاع الخاص لإنتاج عمل بحجم «أم كلثوم.. دايبين فى صوت الست» إخراج أحمد فؤاد وتأليف د. مدحت العدل، منها تحريك سوق صناعة المسرح وعدم الارتكان إلى المسرح الرسمى فقط، بما يخلق فرص عمل جديدة للفنانين والموسيقيين ومصممى العناصر المختلفة، والأهم هو توسيع قاعدة الجمهور باستعادة بريق المسرح الغنائى العربي، وفى حالة أم كلثوم فإننا أمام مغامرة لافتة انحازت إلى المواهب لا إلى النجوم، رغم سخاء الإنتاج والصورة البصرية المبهرة للعرض.

الخطر الأكبر فى إعادة تقديم السير الذاتية مسرحيا يتمثل فى الخوف من الوقوع فى فخ التقديس أو التكرار، بمعنى أن تتحول الشخصية إلى أيقونة تُروى عنها الحكايات والمواقف دون مساءلة فكرية أو تفكيك نقدى لمسيرتها، وبالتالى يتحول العمل إلى محاكاة للماضى بدلا من إعادة تأويله، بالإضافة إلى خطر آخر يتمثل فى اختزال حياة الشخصية فى مشاهد انتقائية بلا رؤية مسرحية عميقة، فيتحول العرض إلى عمل وثائقى أو تذكاري.

بين الجرأة والمخاطر جاء عرض أم كلثوم محاولا أن يحقق الموازنة الحذرة، فعلى مستوى النص حاول المؤلف أن يلتقط من مسيرتها المحطات التى تبرز ذكاءها فى إدارة موهبتها، حتى أصبحت مصدرا للإلهام، تطور تدريجيا حتى صارت مؤسسة كاملة تدير عالم الغناء فى مصر والوطن العربي، دون أن يغفل مواقفها الإنسانية والوطنية التى قد يعرفها الكثيرون، ولكنه فى الوقت نفسه أضفى نوعا من الخيال أو التصورات الدرامية المؤثرة فى بعض المواقف التى تعد حفرا فى شخصيتها، والتى كان من الممكن استغلالها كخطوط درامية تربط العرض بالكامل وتمنحه عمقا نفسيا، مثل فرحتها فى طفولتها بحصولها على عدة قروش وترجمة هذه السعادة بأغنية على غرار أغنية فيروز الشهيرة «معانا ريال» أو الكابوس الذى رأته فى أوج شهرتها بأنها ستُلقى فى الترعة إذا ما فشلت فى إسعاد الجمهور، مثلما كان يخيفها أبوها فى صغرها، فهذان الخطان كان يمكن استغلالهما لتحقيق تصاعد درامى يكشف لنا الجانب المجهول عن طفولتها وتأثيره فى كبرها على علاقتها بالآخرين، ولكنه اكتفى بتقديم مشاهد بارزة متقنة الصنع من حياتها بلا رابط حقيقي، وفى الوقت ذاته أراد النص تأكيد فكرة أن مصر ولادة وأن موت أم كلثوم ليس نهاية المطاف فمصر قادرة على ولادة الموهوبين، وهو ما حققه المخرج بنهاية مفعمة بالبهجة عقب وفاة أم كلثوم منحازا إلى الأمل فى استمرارية الحياة والفن لا إلى الانغماس فى الرثاء.

إخراجيا نجح أحمد فؤاد فى خلق حوار شديد التناغم بينه وبين مصمم الديكور د. محمود صبري، مصمم الإضاءة ياسر شعلان ومصممة الأزياء ريم العدل، والذين استطاعوا تحقيق حالة بصرية مدهشة تضاهى عروض برودواي، فنجح صبرى فى المزج بين الشاشات الرقمية وقطع الديكور المقتصدة الدالة على الزمان والمكان ليحقق سيولة فى تغيير الديكور والتنقل بين الأزمنة والأمكنة فى سهولة ويسر وترجمت إضاءة ياسر شعلان الحالات الشعورية المختلفة التى عاشتها أم كلثوم ومن حولها فى عذوبة وشجن، ولم تكتف ريم العدل بتصميم ازياء مناسبة للمواقف والحالات الإنسانية للشخصيات فقط، ولكنها أضفت على أزيائها ثراًء بالغا بسبب تكنيك تغيير الأزياء على خشبة المسرح خلال أداء الاستعراضات فى سهولة وبساطة حققت الدهشة والإبهار فى ذات الوقت.

أدائيا انحاز صناع العمل إلى من يجيدون الغناء أولا لأننا بصدد تقديم سيرة كوكب الشرق، وهو منطق سليم تماما، وكان المخرج موفقا تماما فى اختيار وتسكين أغلب الشخصيات، باستثناء أسماء الجمل التى جسدت شخصية أم كلثوم فهى صاحبة صوت هادر ولكنه يتميز بالحدة وليس بالقوة، وفى تصورى أن المطربات فى العرض كن يحتجن إلى جهد أكبر فى التدريب على التمثيل باستثناء ليديا لوتشيانو التى جسدت شخصية منيرة المهدية بأفضل ما يكون ونقلت مشاعر غيرتها وألمها ومرارتها بعنفوان جامح نجح المخرج فى ترجمته بصريا بمشهد يجسد ذروة ألمها حين أدركت أنها اختفت للأبد فى استعراض انتهى بها نزولا إلى أسفل المسرح وكأنها تُدفن، وأتقن كل من ملك أحمد فى دور أم كلثوم الصغيرة، هانى عبدالناصر فى دور رياض السنباطي، يوسف سلامة فى دور القصبجي، عماد أسماعيل فى دور أبوالعلا محمد، عمر صلاح فى دور والد أم كلثوم، منار الشاذلى أختها، إسماعيل السيد أخوها، فتحى ناصر فى دور بليغ حمدي، محمد أيمن فى شخصية محمد فوزي، أحمد عبدالعزيز (عمر الخيام)، اسامة مجدى (الصحفى محمد عبدالمجيد) حسين روبين زعيم الآلاتية واحمد محسن فى دور الصحفى صالح السيد، أما أحمد على الحجار فيعد اكتشافا حقيقيا فى التلقائية والبساطة أدى بهما دور الموسيقار محمد عبدالوهاب، بينما لعب سعيد سلمان دور أحمد رامى بكثير من الصدق والإحساس بمعاناة هذا الرجل المحب لأم كلثوم فى صمت موظفا أدواته الجسدية بوعى لافت جعله كما المغرم الذى يقاوم ولهه، فى حين شكلت معه هدير الشريف، فى دور زوجته، ثنائيا تمثيليا بديعا بلغ ذروته فى المواجهة بينهما حينما فاض بها الكيل فخرجت عن صمتها أمام افتضاح عينيه بحب أم كلثوم فأدته بمشاعر صادقة ملؤها الحزن والألم.

أحد أهم أسباب نجاح العرض هى الألحان والإخراج الموسيقى لإيهاب عبد الواحد، وكذلك التأليف والتوزيع والإخراج الموسيقي لخالد الكمار، فقد أتقن كل منهما التفاعل مع أشعار د. مدحت العدل وصناعة إيقاع لغوى موسيقى ترجم الحوار النفسى للشخصيات وألف بين النص واللحن والأداء فى معزوفة درامية بالغة التأثير.

باسم صادق – بوابة الأهرام

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: المحتوى محمي !!