الإطاحة بشكسبير.. من يعيد ترتيب المكتبة الأدبية؟ من يملكُ رفوفَ الذاكرة؟ جدلُ «الأدب الكلاسيكى» من الغرب إلى العرب

منذ أن خُطَّت أولى القصائد على جلد الغزال، والإنسان مشغولٌ بما ينبغى أن يُحفَظ، وما يستحق أن يُنسي.
واليوم، فى جامعات العالم ومهرجاناته الأدبية، تهتزُّ أرفف المكتبات القديمة.
ويسأل القرّاء، من نيويورك إلى نواكشوط:
أيُّ الأصوات استُبعدت عمدًا؟
وأيُّ الكتب وُضِعَت فى مصاف «العظمة» لأن صاحبها كان رجلا، غربيا، ميتًا؟
الجدل الدائر حول «الكانون الأدبي» ـ ما يُعتبر جزءًا من الأدب «الكلاسيكي» أو «الرفيع» ـ أو ما يمكن أن نطلق عليه «النصوص المرجعية» .. لم يعد شأنا نخبويًا يخص النقاد وأساتذة الأدب ودارسيه فحسب. فقد تحوّل إلى قضية ثقافية عامة، تتقاطع فيها أسئلة الهوية، والسلطة، والذاكرة الجماعية.
السياق العالمي: اهتزاز الكانون الأدبى فى الغرب
يشهد هذا الصيف، ملامح تحوّلٍ فعليّ فى تدريس الأدب فى الجامعات والمدارس الثانوية الغربية.
ففى اسكتلندا، أعلنت هيئة التأهيل الرسمى (SQA) حذف إلزامية تدريس شكسبير من امتحانات المرحلة الثانوية العليا، واستبداله بنصوص لكتّاب سكوتلنديين معاصرين.
يأتى هذا الحدث فى سياق عالمى أوسع تعيد فيه كثير من الجامعات تقييم الكلاسيكيات، ويمنح مساحة أكبر لأدب الشعوب الأصلية، والأقليات، والكتابات العابرة للهويات التقليدية.
وقد خرج هذا الجدل من الكتب والمقالات إلى قاعات المحاضرات ومجالس المناهج، لينتج عنه قرارات فعلية، يراها البعض تُزعزع مركزية الأبيض، الذكوري، الكلاسيكى فى خريطة المناهج الدراسية للأدب.
ففى الولايات المتحدة، أظهر تقرير حديث صادر عن مجلس الأمناء الأكاديمى (ACTA) أن غالبية أقسام الأدب الإنجليزى فى الجامعات الكبرى مثل هارفارد وبرينستون وبيركلى – لا تُدرّس شكسبير كمكوّن إلزامى فى برامجها الدراسية.
القرارات التى بدت تقنية فى ظاهرها، فجّرت جدلًا واسعًا فى الأوساط الثقافية، إذ اعتبرها بعض الأكاديميين «خيانة للأب المؤسس للأدب الإنجليزي»، فيما رأى آخرون أنّ الوقت قد حان لكسر الهيمنة الرمزية لنصوص وُلدت فى سياقات استعمارية، واستمرت قرونًا كمعيار لما هو قيم ورفيع.
كانت هذه المشاهد جزءًا من تيار متصاعد يكتسح الجامعات الغربية منذ سنوات، ويعيد طرح السؤال الأكثر إحراجًا: هل «الكانون الأدبي» الذى نُدرِّسه ونحتفى به هو نتاج الذوق، أم السلطان؟
هذه الخطوات، وإن بدت منفصلة، تُعبّر عن لحظة مفصلية. فالنقاش حول إعادة النظر فى ”الكانون الأدبي“ ليس وليد اللحظة، حيث يعود إلى ما لا يقل عن عقدٍ كامل، راكم فيه النقّاد والدارسون اعتراضاتهم على «قداسة» بعض الكلاسيكيات التى رسّختها تقاليد استعمارية، وذائقةٌ مُمركزة تُدار من جهة واحدة.
فى أكسفورد، وفى باريس، وفى مكتبات كبري، بدأت كتبٌ طالما وُصفت بـ«العظيمة» تتراجع، لصالح أصوات نسائية، ما بعد كولونيالية، أو من الهامش العرقى واللغوي.
وفى مطلع هذا العام، عندما أصدرت صحيفة نيويورك تايمز قائمتها لأفضل مائة كتاب فى القرن الحادى والعشرين، اشتعلت مواقع التواصل بالاعتراضات، ومن بينها: أين الأدب العربي؟ أين الكتابات النسوية؟ ولماذا هذا الإصرار على الأسماء ذاتها التى طالما سيطرت على رفوف الجوائز؟
أسئلة الغياب: الذاكرة الأدبية.. من تُقصي؟
فى قلب هذا الجدل، لا تقف المسألة عند «من نُدرّس؟» وإنما تمتد بالضرورة إلى «من لم نقرأه قط؟»
فالتاريخ الأدبي، كما يُروى فى الكتب والمناهج، ليس سجلًا بريئًا لذائقة القرّاء تماما.. إنه خريطة تواطأ فى رسمها النقاد والناشرون، والمحرّرون، والمترجمون، بل وحتى الدول.
ولعلّ أخطر ما فى الكانون الأدبى التقليدي، أنه لا يُقصى بالنفى الصريح، بل يُمارس طقس محوٍ بطيء، يكفن ويدفن من خلال الإهمال الصامت.
فأين أصوات النساء، والكتّاب المنتمين للهامش الجغرافى أو الطبقى أو اللغوي؟
ولماذا ظلّت أعمال ضخمة مكتوبة باللغات الأصلية للشعوب المُستَعمَرة حبيسة هوامش النقد والقراءة، رغم تفوّقها الفني؟
إننا نُدرك اليوم، أكثر من أى وقت مضي، أن ما غاب عن الرفوف لم يكن دون قيمة، بل دون امتياز.
الواقع العربى .. الصمت الذى طال أكثر مما ينبغى وإذا كانت الجامعات الغربية قد بدأت، ولو متأخرة، فى مراجعة متونها المكرّسة، فإنّ المشهد العربى يَشى بصمتٍ أطول من اللازم.
فرغم ثراء التجربة الأدبية العربية وتعدّد تياراتها الجمالية والفكرية، لا تزال المناهج المدرسية والجامعية تكرّس نمطًا واحدًا لما يُفترض أن يكون عليه «الأدب»، وتعيد إنتاج قائمة محدودة من الأسماء، كأن الزمن قد توقّف عندها.
فى مقررات الأدب العربى المعتمدة بكليات الآداب فى جامعات القاهرة واليرموك وتونس وبيروت، تتكرّر أسماء مثل طه حسين، العقاد، المتنبي، والمعري؛ بوصفها الثوابت التى لا تُمسّ.
أما الأصوات النسائية، كرضوى عاشور، وهدى بركات، أو الكتّاب من الهوامش الجغرافية واللغوية، فيُكتفى بها فى هوامش اختيارية، أو تُوضع فى سياق «الأدب النسوي» أو الاستثناء الأدبي، وليس الأدب المطلق.
كذلك نادرًا ما تُدرّس نصوصٌ باللهجات المحكية، أو المكتوبة بالأمازيغية أو السريانية أو الكردية، وكأن الأدب لا يُعترف به إلا إذا تحدّث بلغة السلطة المركزية.
الأسئلة الكبرى حول «من نُدرّس؟» و«مَن نُهمّش؟» لم تَخترق بعد جدار المؤسسات الأكاديمية الرسمية، وكأننا نخشى أن نراجع تراتبياتنا الرمزية، خشية أن نُضطر إلى تفكيك مرايانا.
مها شهبة