أخبار مسرحية

الإنسانُ الكونيُّ وفضاءُ المسرحِ متعدِّدِ الثقافات

سبق أن تناولتُ، في ورقة بحثية سابقة نُشرت على موقع “الهيئة العربية للمسرح” بعنوان:  المسرح متعدّد الثقافات أم مسرح المهجر؟، إشكاليات تتعلق بالمسرح كهوية وانتماء، وكفن يُعبر عن الإنسان عبر أزمنة وثقافات متعدّدة. طرحتُ فيها تساؤلات حول طبيعة المسرح المنتمي إلى بيئات الهجرة: هل هو امتداد لتجربة ثقافية محلية، أم تعبير عن هوية مركبة وعابرة للحدود؟

تأتي هذه الورقة كمواصلة لذلك الطرح، ولكن من زاوية مختلفة، تستند إلى قناعة مفادها أن المسرح، في جوهره، فضاءٌ إنسانيٌّ كونيٌّ ومتعدِّدُ الثقافات، لا يمكن تأطيره ضمن هويات مغلقة أو نزعات انتمائية ضيقة. بل إن المسرح الحقيقي، حين يتحرّر من التصنيفات الجغرافية والهوياتية، يتحوّل إلى مرآة للوجود الإنساني، ومنصة لتفاعل الذات مع الآخر من خلال الفن والجمال والحرية.

إن الرؤية المنفتحة تجعل من المسرح أكثر من مجرّد فنٍ للعرض؛ بل تحوله إلى حوارٍ مفتوحٍ بين الذوات، وساحةٍ تُختبر فيها القيمُ الكبرى للحرية والاختلاف والجمال.

يرى الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط (Immanuel Kant) الإنسان الكونيّ بوصفه الطاقة التي تغذّي الإنسان الساعي إلى سلامٍ دائم، عبر عقلٍ أخلاقيٍ عالمي، عقلٍ لا تحدّه المصالح الضيقة، ولا تقيده حدود الجغرافيا أو اللغة أو الاختلاف. عقل يسمو على نزعات السوق ومزاج الربح المادي، ويقاوم البيروقراطيات التي تطفئ جذوة الإبداع. إنه مشروع كينونة إنسانية تتجاوز الحدود، لا مجرد نشاط ثقافي لجالية أو جماعة مهاجرة، أو فئة ثقافية منفصلة.

في أحد الاجتماعات مع إدارة أحد المسارح الأوروبية عام 2013، أبدوا رغبتهم في إنتاج أحد مشاريعي، وتحديداً عرض “ضد التيار”. قال لي أحد المسؤولين، بنبرة صادقة وحذرة:

“أنت مخرج عراقي – بلجيكي – أوروبي، وهذا هو عنوانك الحقيقي. ابتعد عن مسرح المهجر، فهو ببساطة مسرح هواة لا يرقى إلى مستوى الاحتراف.”

توقفت طويلاً عند هذه العبارة. رغم أنني استخدمتُ مصطلح “مسرح المهجر” في سياق عام، لا بقصد التوصيف الحصري، إلا أنني ومنذ ذلك الوقت بدأت أبحث في جذور هذا المفهوم: من هم القائمون عليه؟ ما مصادر تمويله؟ وما الذي يميّزه أو يحدّه؟

اكتشفت لاحقاً أن المسرح في أوروبا يُقاس مستواه الاحترافي بمدى ما يتلقاه من دعم مؤسسي من الجهات الحكومية. فإن لم يحظَ بهذا الدعم، يُصنّف ضمن فئة “مسرح الهواة”، حتى وإن كان العمل على مستوى فني عالٍ.

واجهنا هذا الواقع بشكل مباشر في مشروع “ضد التيار”، حين تقدّمنا في العام نفسه بطلب دعم رسمي جديد. جاء الرد من بلدية المدينة واضحاً: “مشروعكم احترافي، ولا يدخل ضمن سقف الدعم المخصص للمشاريع الصغيرة”، حتى وإن شارك فيه بعض الهواة أو الخريجين الجدد.

من هنا، أدركت أن ما يُسمّى بـ “مسرح المهجر” ليس سوى صيغة مُسالِمة لمسرح الهواة، وأن دعمه، مهما حُسنت النوايا، لا يرقى إلى مستوى الاحتراف الذي تمنحه المؤسسات الفنية الكبرى.

هذا النوع من المسرح يفتقر غالباً إلى البنية الفكرية والجمالية القادرة على جعله فعلاً إنسانياً متعدّد الثقافات. فيتحول إلى نشاط اجتماعي أكثر من كونه مشروعاً فنياً يحمل رؤية جمالية أو فلسفية. لكن المسرح لا يمكن اختزاله في هوية جغرافية أو قومية، ولا في مفهوم “المهجر”، لأن المسرح، في جوهره، فعل وجود إنساني حر، يُحوّل المكان إلى فضاءٍ للخلق والتجدد.

الإنسان الكونيّ، كما أراه، هو من يصنع من تعدّده جسراً نحو الآخر، ومن اختلافه منبعاً للمعنى. والمسرح المعاصر يمنح هذه الفكرة مثالاً حياً، إذ يتحوّل إلى مختبر للوعي الإنساني المتعدّد، إلى فضاء يلتقي فيه الشرق بالغرب، والذاكرة بالواقع، والذات بالعالم. وفيه تتلاشى حدود اللغة والمكان، وتبقى الإنسانيّة هي المركز الثابت، اللغة الأم الوحيدة التي نفهم بها بعضُنا بعضاً.

وبهذا المعنى، يصبح المسرح الحقيقي هو مسرح الإنسان الكونيّ، المسرح الذي لا يخضع لمنطق السوق أو مواسم الدعم، بل يستمد شرعيته من قدرته على خلق المعنى، وطرح الأسئلة، واستحضار الجوهر الإنساني في لحظة العرض. إنه المسرح الذي لا يُهاجر، لأنه موطن يتحرّك حيثما وُجد الإنسان.

حسن خيون
مخرج مسرحي معاصر
فرقة الفضاء الواحد   One Space
بلجيكا

ملاحظة: الصور المرفقة من عرض “ضدّ التيار”، المذكور أعلاه – مهرجان صيف أنتورب الدولي، بلجيكا 2013

الهيئة العربية للمسرح

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: المحتوى محمي !!