الرقابة السينمائية العربية بين الحرية والإبداع
المهرجان الدولي لسينما المرأة بسلا رسخ مكانته كفضاء للنقاش الفكري والفني حيث لم يكتف بطرح قضايا الحرية والرقابة.

تطرح الرقابة في السينما العربية أسئلة جوهرية حول حدود حرية الإبداع وضرورة حماية المجتمع، خاصة الأطفال والمراهقين، من مشاهد تؤثر في وعيهم وسلوكهم. ويكشف هذا الجدل عن التوتر القائم بين مطلب الحرية ومسؤولية المؤسسات تجاه الأخلاق العامة.
في هذا الإطار، اختار المهرجان الدولي لسينما المرأة بسلا في دورته الثامنة عشرة أن يفتح نقاشا موسعا حول موضوع “السينما والرقابة”، مستضيفا نخبة من السينمائيين المغاربة والأجانب.
وناقش المشاركون أشكال الرقابة ودورها في تنظيم العملية الإبداعية. واعتبروا أن الرقابة تشمل أبعادا اجتماعية وثقافية وشخصية أيضا.
وأكد خالد عبدالجليل، المخرج والرئيس السابق لهيئة الرقابة في مصر، أن الرقابة تمثل آلية ضرورية للوقاية من التجاوزات، ولضمان احترام الأخلاق العامة وصون الحساسيات الفردية والجماعية. ورأى أن النظام الرقابي، إذا تم تفعيله بوعي ومسؤولية، يساهم في حماية المجتمع دون أن يلغي حرية المبدع.
وشدد المخرج والمنتج المغربي نبيل عيوش على أن الرقابة تختلف من بلد إلى آخر، لكنها تشترك في كونها مراجعة منظمة للأفلام قبل عرضها. وربط أهميتها بحماية الطفولة من المشاهد العنيفة والصادمة، محذراً من آثارها العميقة على التكوين النفسي للناشئة.
وعرض دومينيك كيران المندوب لدى المركز الوطني للسينما والصورة المتحركة بفرنسا، تجربة بلاده التي تعتمد آلية التصنيف العمري وإصدار إشعارات تحذيرية. وأوضح أن لجنة متخصصة تضم 27 عضوا تشاهد جميع الأفلام قبل خروجها إلى الجمهور، بهدف حماية المراهقين والأطفال من المضامين الماسة بالكرامة أو المؤثرة على النمو السليم للشخصية.
وأبرز المخرج المصري مجدي أحمد علي أن الرقابة تتجسد في مستويات متعددة؛ فهي مؤسساتية من جهة، لكنها أيضاً اجتماعية تنبع من المحيط والبيئة الثقافية، فضلا عن الرقابة الذاتية التي يمارسها المبدع على نفسه خشية إثارة حساسيات معينة، سواء لدى عائلته أو جمهوره.
ورسّخ المهرجان الدولي لسينما المرأة مكانته كفضاء للنقاش الفكري والفني، إذ لم يكتف بطرح قضايا الحرية والرقابة، لأنه سعى إلى تعزيز دور المرأة في السينما والتصدي للصور النمطية. وواصل تنظيم أنشطته المتنوعة بين عروض المسابقة الرسمية والندوات الفكرية وتقديم المؤلفات والعروض السينمائية في الهواء الطلق، بشراكة مع جماعة سلا ومؤسسة سلا للثقافة والفنون.
وفتح هذا النقاش باب التفكير في التوازن الصعب بين حماية المجتمع وضمان حرية الإبداع، مؤكداً أن السينما فضاء للتربية والتفكير والتغيير، وهو ما يجعل موضوع الرقابة مطروحاً بإلحاح كلما تعلق الأمر بعلاقة الفن بالقيم المجتمعية.
وتكشف الرقابة في السينما عن وجهها السياسي حين تتحول إلى أداة بيد السلطات لتوجيه الخطاب الفني بما يتماشى مع مصالحها وأجنداتها. ففي بعض السياقات، لا يُسمح بمرور فيلم إلا إذا انسجم مع التوجه العام للدولة أو تجنّب المساس بقضايا تعتبر حساسة سياسياً، وهذا يجعل الفن السابع أحياناً سجين حسابات أيديولوجية تتجاوز همومه الإبداعية.
وتتمظهر الرقابة كذلك في بعدها الثقافي والفكري، إذ تُمارَس وفق معايير تحدد ما هو مقبول وما هو مرفوض، من زاوية الحفاظ على هوية معينة أو قيم مجتمعية يُراد ترسيخها. وهنا، تصبح الرقابة جزءاً من صراع أوسع حول تشكيل الوعي الجماعي وصياغة صورة المجتمع عن نفسه عبر السينما.
وتتشابك أحيانا خيوط الرقابة في شبكة عنكبوتية من المصالح الاقتصادية، خاصة عندما تتحكم شركات إنتاج كبرى وموزعون نافذون في ما يصل إلى الجمهور. ويجري ذلك خلف الكواليس عبر اتفاقات غير معلنة تحدد الأفلام التي تُفتح لها أبواب القاعات، وتلك التي تُقصى أو تُهمّش، وفي هذه الحالة، لا تعبر الرقابة هاجس الحماية أو الأخلاق، لأنها بكل بساطة تخدم منطق السوق والاحتكار وتوجيه الذوق العام وفق حسابات ربحية.
ويتحول دور الإعلام أحيانا من فضاء للنقد الصادق والبحث الجاد في قضايا تنوع الرقابة في السينما إلى أداة في يد من يدفع أكثر، إذ يُوجَّه قلم بعض النقاد والصحافيين لخدمة مصالح شركات إنتاج أو مهرجانات أو حتى جهات سياسية. وهذا الانحراف يجعل النقد، الذي يفترض أن يكون ضمير الفن السابع، مجرد صدى لتوجيهات مسبقة.
ويفقد الإعلام قيمته حين يتخلى عن استقلاليته، لأن مهمته الأساسية تكمن في الإبحار الحر والصادق في عوالم الإبداع، وفتح النقاشات العميقة التي تبرز تنوع الآراء واختلاف التوجهات. لكن عندما يُباع هذا الدور مقابل المال أو الامتيازات، يصبح الإعلام طرفا في لعبة الرقابة غير المعلنة، فيساهم من حيث لا يدري في تزييف وعي الجمهور.
ويؤدي هذا الانزياح الخطير إلى تكريس احتكار معين للخطاب النقدي، حينما تُلمَّع أعمال سينمائية دون قيمة حقيقية، بينما تُقصى أفلام جادة ومغايرة لمجرد أنها لا تخدم مصالح اللوبيات المسيطرة. وهنا، تتضاعف مسؤولية الصحافة والنقد في استعادة استقلاليتهما كركيزة للحرية الفكرية وكمساحة لتوسيع النقاش العمومي بعيداً عن الحسابات الضيقة.
ويطرح هذا الوضع أسئلة عميقة حول أخلاقيات المهنة، وحول الحاجة الملحة إلى إعلام مستقل ونقد حر قادر على مواجهة إغراءات المال وضغوط الشركات، بما يضمن أن يبقى الفن السابع فضاء للتعبير الحر النابع من الواقع الاجتماعي بسلبياته وإيجابياته.
ويتعرض الخط التحريري للصحف والجرائد بدوره لشكل من أشكال الرقابة، لا يختلف كثيرا عن الرقابة المفروضة على السينما، فالمؤسسات الإعلامية، التي تعتمد بشكل كبير على الدعم العمومي أو الإعلانات الموجهة، تجد نفسها مقيدة بمعايير غير معلنة تفرض عليها ما يمكن نشره وما ينبغي تجنبه.
ويتحول هذا الدعم الذي يفترض أن يكون آلية لمساندة الصحافة في أداء دورها التنويري، إلى أداة ضغط خفية تحدد سقف الحرية المتاحة. وعوض أن يخدم استقلالية المؤسسات الإعلامية، يصبح في الكثير من الأحيان وسيلة لتوجيهها وضبط خطها التحريري بما يتناسب مع مصالح الجهات المانحة.
ويؤكد هذا الواقع أن الرقابة شبكة واسعة تشمل الإعلام أيضاً، إذ يصبح كل من يريد أن يخرج عن النص معرضاً للتهميش أو فقدان الامتيازات. وهنا، تلتقي الرقابة في السينما مع الرقابة في الصحافة عند نقطة واحدة: التحكم في ما يصل إلى الجمهور.
عبدالرحيم الشافعي