دراما وفنون

السينما بين نجاح وإخفاق في بلوغ الغموض الخلاق

فيلم "المرأة في المقصورة 10" يحتاج إلى اكثر من البراعة في التمثيل والابهار في ادارة المكان

ملخص

يثير فيلم “المرأة في المقصورة 10” سجالاً حول مادته السينمائية وعناصره من تمثيل وتصوير وإدارة متقنة. وفيه تؤدي الممثلة البريطانية كيرا نايتلي دور الصحافية (لورا بلاكلوك) التي تعمل في “ذا غارديان”.

أكثر ما يعلق في البال بعد الانتهاء من مشاهدة فيلم “المرأة في المقصورة 10” (The Woman in Cabin 10) أن صناعة السينما تحتاج إلى ما هو أبعد من ممثلين بارعين وكاميرا مبهرة وإدارة متقنة للمكان، سواء كان عالي الرفاهية، كما في هذا الفيلم، أو معتماً مليئاً بالقذارة والصمت، وتحتاج إلى أكثر من بذخ في الإنفاق والإنتاج. إنها تحتاج إلى العمق والحذق والحكمة والإقناع، وكذلك اللمسة الفلسفية التي ترتقي بذوق المشاهد وتحطم توقعاته، وتجعله منشداً إلى التفاصيل المغايرة لما استقر في ذاكرته من أحداث متكررة ومستعادة.

هذه العناصر التي افتقر إليها الفيلم (132 دقيقة) الذي يعرض حالياً على منصة “نتفليكس” منذ الـ10 من الشهر الجاري، جردت العمل من مقومات الفرادة التي هي مسعى الفن وضالته. فعلى رغم الأداء الجيد والمتقن لبطلة الفيلم البريطانية كيرا نايتلي التي تؤدي دور الصحافية (لورا بلاكلوك) التي تعمل في “ذا غارديان”، فإن عجز الرؤية المبهرة للحكاية، المقتبسة من رواية روث وير، جعل أداء الصحافية الاستقصائية يبدو محدوداً ومقيداً بتصورات نمطية عن دراما الغموض والرعب والإثارة. ولولا الجهد الذاتي الذي أظهرته السمات الشخصية والمهارات المتعددة لدى الممثلة نايتلي، لكان مصير الفيلم أكثر سلبية مما سجله النقاد الذي أعطوه تقييماً لم يتجاوز (5/10).

لولا كيرا نايتلي

وكانت نايتلي رشحت لجوائز عدة من بينها جائزة الأوسكار، وكذلك “غولدن غلوب” لأفضل ممثلة عن دور إليزابيث بينيت في فيلم “كبرياء وتحامل” (Pride and Prejudice) المقتبس من رواية جين أوستن.

فيلم “المرأة في المقصورة 10” ينتسب إلى فضاءات أغاتا كريستي، إذ يتناول حكاية الصحافية العائدة من تحقيق استقصائي عن أطفال أكراد، ينتهي بجريمة قتل لأحد مصادرها، تترك آثاراً نفسية عميقة على الصحافية التي تلبي دعوة فاخرة على متن يخت قدّرت بأنها ربما تسهم في إبراء آلامها. الدعوة توجه إلى “لو” كما يخاطبونها، وهي بمثابة حفل عشاء فاخر لكبار الأثرياء في مضائق النرويج للإعلان عن المؤسسة الخيرية التي أطلقتها المليارديرة آن المريضة بالسرطان (ليزا لوفن كونغسلي) وزوجها ريتشارد (غاي بيرس).

وتطلعات “لو” لقضاء ثلاثة أيام ممتعة، تحولت إلى جحيم، إذ تكتشف جريمة قتل تبدأ بإلقاء جثة امرأة في البحر. والصحافية المقيمة في المقصورة الثامنة تسمع صوت الشجار قبل الحادثة، في المقصورة الـ10 التي تجاورها، وحين تخرج إلى الشرفة ترى آثار دم على الحائط الخارجي، فتقرر الإبلاغ عن الحادثة، لتدخل في سلسلة من التواطؤات وتكذيب روايتها واتهامها بالاضطراب، وبأنها لا تزال تحت تأثير الصدمة بسبب مقتل أحد مصادرها.

تتبع خيوط الجريمة

في ضوء ذلك، تخلع “لو” زي الاحتفال، وتستعيد روح الصحافية، فتشرع في تتبع خيوط الجريمة، فيلحق بها أذى فظيع وتحبس في قاع اليخت وتتعرض للإغراق، بعد إلقائها من شرفة مرتفعة في المسبح الذي يغلق وتترك تتخبط وتعاني الاختناق لولا تدخل بعض المدعوين إلى الاحتفال.

ومع التحريات والمتابعات التي تجريها “لو” ولا يساندها بها أحد إلا المصور الصحافي بن (ديفيد أجالا)، المكلف توثيق وقائع الاحتفال، وحبيبها السابق الذي يقتل لدى محاولته إنقاذ “لو” من الحقنة المميتة التي يوجهها إلى رقبتها الطبيب ميهتا (آرت مالك) المتواطئ مع ريتشارد، زوج آن التي تعرض وصيتها على “لو” لقراءتها وتحريرها.

الحكم على الفيلم لا يكتمل إلا بعرض مزيد من الحكاية، إذ تكتشف الصحافية أن ريتشارد أحضر فتاة بطريقة سرية، تكون مطابقة لمواصفات آن، من أجل ضمان أن تكون الوصية في خدمة مصالحه، لا من أجل تدشين مؤسسة خيرية لأبحاث السرطان.

من هنا يبدأ التصاعد الدرامي المتوتر في الثلث الأخير من الفيلم، فتتسارع الوقائع وتبدو رغبة المخرج سيمون ستون ملحة في إنهاء الأحداث، ولو تسبب ذلك في التضحية بالتسلسل المنطقي والارتهان إلى المصادفات، مما حوّل الفيلم إلى “أكشن” مفتعل قاد إلى نتيجة متوقعة، إذ تدين المحكمة الملياردير القاتل وطبيبه المتواطئ معه، وتعود الصحافية لعملها بمشاعر ممزوجة بالفخر والعذاب النفسي، واصفة قصتها بأنها “موضوع إنساني في زمن لا إنسانية فيه”.

كيف تصنع الأفلام العظيمة؟

عوداً على بدء، فأن تصنع فيلماً ذا طابع فيه مقدار عال من الغموض والإثارة والتوتر النفسي، لا يعني السير على خطى الآخرين، إلا إذا كان القائمون على هذا العمل يتوخون الإبهار العابر والتسلية التي تنشد تزجية الوقت على وقع صرير الأسنان وهي تقضم الـ”بوب كورن”، ولهذا أصابت ليزا كينيدي، الناقدة السينمائية في صحيفة “نيويورك تايمز”، عندما كتبت “في النهاية، ليست الجثة وحدها ما يلقى في البحر، بل جزء من منطق القصة أيضاً”.

والذين انتقدوا فيلم “المرأة في المقصورة 10″، على رغم تصدره تقييمات جمهور “نتفليكس” في بعض البلدان، انطلقوا في مآخذهم الفنية من تراث سينمائي عريق في صناعة أفلام الرعب والتوتر والغموض. وتستعيد الذاكرة في هذا المقام على سبيل المثال فيلم “صمت الحملان”   (The Silence of the Lambs)  الذي يستبطن الرعب من زاوية نفسية غائرة في التحليل والتبصر والحفر، لذلك فاز بجائزة “الأوسكار” لأفضل فيلم عام 1999، إضافة إلى أربع جوائز رئيسة أخرى.

ولا ننسى أيضاً فيلم “البجعة السوداء”  (Black Swan) الذي فازت بفضله ناتالي بورتمان بجائزة أفضل ممثلة في “أوسكار” عام 2011. وعام 2021، أُدرج أداء بورتمان من قبل مجلة “ذا نيو يوركر” ضمن قائمة أفضل الأداءات السينمائية في القرن الـ21.

وهناك أيضاً فيلم “أُخرج” (Get Out) الذي حاز جائزة “الأوسكار” لأفضل سيناريو أصلي عام 2016 (نالها الكاتب جوردان بيل)، على رغم أنه مستوحى من أجواء فيلم “ليلة الأحياء الموتى” الصادر عام 1968.

ويضاف إلى قائمة الأفلام الكثيرة التي أبدعت في حقل الرعب والغموض، فيلم “الحاسة السادسة” (The Sixth  Sense)  الصادر عام 1999 والذي رشح لجوائز “أوسكار” عدة، وصنفه المعهد الأميركي للسينما عام 2007 في المركز الـ89 ضمن قائمة أفضل الأفلام على مر الزمان.

من الصعب إحصاء الأفلام كافة التي عاينت موضوع الرعب، وحللته في ضوء آليات علم النفس وحوّلته إلى أيقونات فنية وألقت أضواء ساطعة على مجاهل النفس الإنسانية وعتماتها، ولعل صناع “المرأة في المقصورة 10” شاهدوها، أو سمعوا بها في الأقل.

سيفرغ الوعاء من الـ”بوب كورن” بلا ريب، وستنسى مثل هذه الأفلام، بالسرعة والارتجال والسطحية ذاتها التي صنعت بها. ولا يبقى إلا الإبداع الخلاق المخلص لروح الفن الأصيلة.

موسى برهومة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: المحتوى محمي !!