ثقافة

الصناعات الإبداعية.. اقتصاد معرفة

يشكّل البعد الثقافي والفني للصناعات الإبداعية، جزءاً مهماً من صياغة المشهد الوطني، فهي اليوم ليست مجرد قطاع مكمل للثقافة أو الفنون، بل منظومة استراتيجية شاملة تسهم في توفير الفرص وتغذية القطاعات الحيوية بمختلف مجالاتها، مثل الثقافة والسياحة والتعليم والتكنولوجيا والإعلام. وتُعد هذه الصناعات قوة ناعمة بامتياز، إذ تسهم في تعزيز الفكرة الإبداعية الإماراتية، وتجعل المنتج الثقافي والفني حين يخرج إلى العالم بمثابة سفير للثقافة الوطنية، حيث إنه لا يقدم صورة مشرقة عن الدولة فحسب، بل يعكس قيمها ومكانتها الحضارية في الحوار الثقافي الدولي، مكرساً دورها الاستراتيجي ومنطلقها الإنساني الممتد إلى الآخر.
الصناعات الإبداعية باتت تسهم في بناء اقتصاد معرفي قائم على الابتكار والإبداع، حيث تتحول الفنون البصرية والأدب والموسيقى والسينما والتصميم إلى قيمة اقتصادية حقيقية تصب في خدمة الوطن والمجتمع. ومن هذا المنطلق، يتحول هذا القطاع اليوم إلى رافعة حضارية واقتصادية تعزز مكانة الإمارات وتضعها في قلب الخارطة الثقافية العالمية. وفي هذا الاستطلاع نستعرض آراء عدد من المختصين والمرتبطين بمجالات الصناعات الإبداعية.

HtmlAgilityPack.HtmlAttribute

في البداية، يقول الفنان الدكتور حبيب غلوم: «إن الصناعات الإبداعية تعتبر مرحلة متقدمة في مفهوم دعم الثقافة، وأتصوّر أننا ما زلنا في مرحلة البدايات. نحن بحاجة إلى جهود أكبر وتركيز أكثر لأننا نؤمن بدور المؤسسات ورسالتها وما تتبناه من جهة، والعقول الموهوبة والمبدعة من جهة أخرى، كونها تستحق أن تُقدّر ويلتفت لها بشكل أكبر. فالسينما والمسرح لدينا وبعد نحو 60 سنة من التجارب لا يزالان يحاولان، لكننا نؤمن إيماناً تاماً بأن السينما كذلك هي صناعة من الصناعات الإبداعية، وربما لا تنتج دائماً شيئاً مادياً، لكنها تترك أثراً وجدانياً كبيراً يحفّز الآخرين لأعمال إبداعية أخرى أكثر أهمية».

HtmlAgilityPack.HtmlAttribute

بدورها، تقول الدكتورة عبير الحوسني، مدير قسم الموروث الشعبي والهوية الوطنية بدائرة الآثار والمتاحف: «إن الصناعات الإبداعية ليست مجرد إنتاج فني أو نشاط اقتصادي؛ بل هي فضاء رحب تتجلى فيه طاقات الإنسان ومخيلته لتتحول إلى لغة حضارية تعبر عن روح الوطن. ففي الإمارات تلتقي الأصالة بالحداثة في مشهد إبداعي ثري يجمع بين الفنون البصرية، التصميم، الأدب، السينما والموسيقى. وهذه الصناعات تصوغ وعياً جمالياً وفكرياً يعكس تنوع المجتمع، كما تمنح المبدعين فرصة لتشكيل رؤيتهم الخاصة ومساحة للتعبير الحر، حيث تفتح أمامهم آفاقاً لتبادل التجارب مع الثقافات العالمية، مما يعزز الحوار الحضاري والتنوع الثقافي».
وتضيف: «في الإمارات تكتسب هذه الصناعات بعداً مضاعفاً، فهي تتنفس من إرث عريق قائم على الحكاية والشعر والفنون الشعبية، وفي الوقت ذاته نراها منفتحة على آفاق الحداثة والتطور والتكنولوجيا، وبذلك تصبح منصة يلتقي فيها التراث بالابتكار، والهوية المحلية بالحوار العالمي».
رأي الحوسني يبرز قيمة الجمع بين الماضي والحاضر، وكيف يمكن للتراث الشعبي أن يتحول إلى مصدر طاقة متجددة يغذي الصناعات الحديثة، لتصبح الإمارات نموذجاً فريداً في الجمع بين الأصالة والحداثة.

HtmlAgilityPack.HtmlAttribute

قوة ناعمة
من جهتها، تقول الدكتورة عائشة الغيص، نائب رئيس جمعية اللغة العربية: «إن الصناعات الإبداعية ليست مجرد إنتاج فني أو تجاري، بل تجسد هوية المجتمع وتروي قصته عبر الفن والابتكار. فهي تمنح المبدع مساحة للتعبير الحر وصياغة رؤى جديدة، وتضع الثقافة المحلية على الخارطة العالمية بوصفها قوة ناعمة وجسراً للحوار والتواصل مع الآخر. وهكذا تتحول إلى رافعة حضارية واقتصادية في آن واحد، تجمع بين دعم المبدع وترسيخ قيمة الوطن». هذا التوصيف يعكس البعد الاستراتيجي للصناعات الإبداعية باعتبارها أداة دبلوماسية ثقافية، لا تقل أهمية عن الاقتصاد والسياسة في تعزيز المكانة الدولية للدول.

HtmlAgilityPack.HtmlAttribute

تجارب ملهمة
من جانبها، تقول الدكتورة فاطمة المعمري، ناقدة وأكاديمية: «تشكل الصناعات الإبداعية في الإمارات بُعداً ثقافياً وفنياً أصيلاً، فهي رافعة للهوية الوطنية وترسيخ قيم الانتماء والإبداع. الأمثلة كثيرة؛ ففي الدراما رسّخ مسلسل (شحفان القطو) ذاكرة شعبية محببة، وفي السينما برزت أعمال إماراتية حصدت جوائز مهمة، مثل فيلم (ساير الجنة) للمخرج سعيد سالمين، وفيلم (زنزانة) للمخرج ماجد الأنصاري الذي عُرض في مهرجانات دولية. أما في الأدب فقد حصدت دار كلمات جائزة بولونيا راجازي 2016، وفاز الشاعر الإماراتي شهاب غانم بجائزة طاغور للسلام في الهند عام 2013».
وتضيف: «هذه التجارب مجتمعة تؤكد أن الصناعات الإبداعية الإماراتية أصبحت اليوم قيمة ثقافية وطنية تعكس أصالة الماضي وتطلعات المستقبل. كما تمنح المبدعين فضاءات رحبة للعرض والترويج، وتفتح أمامهم جسور الحوار مع جمهور أوسع، وتتيح فرصاً اقتصادية واعدة من خلال تحويل الإبداع إلى مصدر دخل مستدام عبر الجوائز والمنح وبرامج الدعم». إن هذه الأمثلة تكشف عن حجم التراكم الثقافي الذي حققته الإمارات خلال عقود قليلة، وكيف تحولت من مرحلة التأسيس إلى مرحلة الحضور الفاعل في الساحة العالمية.

HtmlAgilityPack.HtmlAttribute

حفظ الموروث
بدوره، يقول الباحث فهد علي المعمري: «تتجاوز الصناعات الإبداعية حدود الإنتاج الفني البحت لتتحول إلى رافعة ثقافية وحضارية تعكس الهوية الوطنية. فهي تستلهم عناصر الثقافة المحلية وتعيد تقديمها بروح معاصرة، مما يمنحها قيمة مزدوجة في حفظ الموروث وتحديثه. كما أنها تعمل على فتح آفاق جديدة للمبدعين؛ بحيث تمكّنهم من التعبير عن أنفسهم ضمن قوالب فنية متجددة، وتوفر منصات للابتكار وريادة الأعمال الثقافية، مما يفتح أمامهم فرصاً مهنية تتجاوز دائرة الهواية إلى فضاء الاحتراف». ويتابع: «من خلال هذه الصناعات يصبح الوطن نفسه موضوعاً للإبداع ومنتجه في الوقت ذاته؛ فهي تتيح صياغة صورة ثقافية تعكس تنوع المجتمع وغناه، وتقدّم الإمارات للعالم باعتبارها مركزاً للتلاقي الحضاري ومختبراً للأفكار المبتكرة».

HtmlAgilityPack.HtmlAttribute

ركيزة ثقافية
تقول الدكتورة حمدة العوضي، أستاذة في قسم اللغة العربية بجامعة الشارقة: «تمثل الصناعات الإبداعية في الدولة ركيزة أساسية في بناء المشهد الثقافي والفني المعاصر، فهي ليست مجالات إنتاج اقتصادي فحسب، بل تحمل بعداً ثقافياً يعكس هوية المجتمع، ويعزز حضور الإمارات عالمياً. فمن خلال المتاحف العالمية، مثل اللوفر أبوظبي، والمهرجانات الثقافية والفنية، مثل مهرجان الشارقة القرائي للطفل، ومهرجان الفنون الإسلامية، ومعرض أبوظبي الدولي للكتاب، إضافة إلى المناطق الإبداعية الحرة، مثل منطقة الشارقة للنشر وحي دبي للتصميم، أصبح للمبدعين فضاءات واسعة لعرض أعمالهم وتطوير مواهبهم والتفاعل مع العالم».

مشروع حضاري
من خلال هذه الشهادات المتنوعة، يتضح أن الصناعات الإبداعية الإماراتية أصبحت مشروعاً حضارياً متكاملاً، يدمج بين الاقتصاد والثقافة، بين التراث والحداثة، وبين المحلي والعالمي. فهي لا تعزز فقط صورة الإمارات كدولة راعية للفن والثقافة، بل تجعل الإبداع نفسه ركناً أصيلاً من مشروعها التنموي المستقبلي. وفي الوقت نفسه، تمنح الصناعات الإبداعية المبدعين الإماراتيين والعرب المقيمين في الدولة فرصة للتفاعل مع جمهور عالمي، وتفتح أمامهم منصات تضمن لهم الانتشار والتأثير.
إن هذه الصناعات ليست مجرد قطاع اقتصادي ناشئ، بل هي رؤية حضارية شاملة تؤكد أن الإبداع هو لغة المستقبل، وأن الإمارات عازمة على أن تكون أحد أبرز رواده في المنطقة والعالم.

هزاع أبو الريش

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: المحتوى محمي !!