أخبار مسرحية

العرض البولندي ‘الصمت’ ومقتضيات العرض المسرحي المتكامل

المخرج نجح في وضع سيناريو عرضه الحافل بسرد تاريخ الدم والعنف والقهر والاستبداد والتعجرف السلطوي، عبر محطات تاريخية أجهزت فيها الحروب على الإنسانية من أجل السلطة والمال.

فعلا إنها ساحة للاحتفالات في بغداد، لأنها احتفلت بالمسرح والجمال الخلاق، وسط حضور جماهيري كبير تجمع فيها لمشاهدة العرض المسرحي البولندي “الصمت” إخراج Szkotak Pawel، ضمن عروض مهرجان بغداد الدولي للمسرح في دورته السادسة.

سأفترض هكذا، أن هذا المخرج يمتلك عمرا أسطوريا .. فقد عاش منذ زمن قابيل وهابيل واستنشق يومها رائحة القتل والدم، وكان قد اتخذ من قريتي هيروشيما وكانزاكي مسكنا له فسقطت عليه بعض شظايا القنبلة الذرية عام 1945، وافترض أيضا أنه كان جنديا شرسا مشاركا في حرب فيتنام عام 1955، وبعدها بسنوات اختار أن يكون مراسلا صحفيا في أكثر من دولة عربية: بين بغداد واليمن ولبنان والسودان وليبيا، وآخر افتراضاتي أن هذا المخرج لديه إقامة طويلة في جميع دول الوطن العربي خلال العشرين سنة الفائتة ومنها العراق.

وسط فضاء مفتوح نجح المخرج في اختياره، كما نجح في وضع سيناريو عرضه المسرحي وموضوعه الترميزي الحافل بسرد تاريخ الدم والعنف والقهر والاستبداد والتعجرف السلطوي، عبر أماكن ومحطات تاريخية أجهزت فيها الحروب على الإنسان وعلى الإنسانية من أجل السلطة والمال، كانت الحافلة الكبيرة هي ذلك الوطن المغلوب على أمره، وركابها مع أطفالهم “الدمى” هم ضحايا الشعوب المستضعفة في جميع أرجاء الدول التي ناشتها الحروب وأثارها غير القابلة للنسيان .. وحسنا فعل المخرج إن جعل الأطفال هنا عبارة عن دمى، وإلا لو كانوا أطفالا ممثلين حقيقيين لاختلف المشهد برمته، لأني سأواصل افتراضاتي مرة أخرى وأقول: إن هذه الجماهير المتحلقة حول العرض، ستثور مباشرة بعد العرض وتحرق الأخضر واليابس فوق رؤوس القتلة والفاسدين تعاطفا وانتقاما لما تعرض له الأطفال وسط حوادث العرض بين قتل وحرق وذبح ودم وسحل وتعذيب، هم وأهاليهم جميعا.

بمفردات محدودة ومعروفة الاستخدامات اليومية، ابتكر منها المخرج توظيفات لا متوقعة ليوصل لنا الدلالة العميقة والمحتكمة إلى لغة العرض المسرحي التي ينبغي، فنجد مثلا الدراجة البخارية وقائدها التي جسدت لنا آلاف الطائرات والدبابات والمدافع والسفن الحربية التي قتلت الشعوب الآمنة، حيث كانت هذه الدراجة البخارية وهي تحوم حول الممثلين وهي تبث الرعب والموت والتجويع، كذلك فعلت فعلها تلك العجلات النارية التي تجتاح المدينة/المكان، ناشرة الحرائق هنا وهناك، فضلا عن عملقة المتسلط باستثمار أعواد الخشب الطويلة لجعل الساقين طويلين على غير العادة وكأنهم شياطين ومردة هذه الدنيا ممن تعملقوا فيها علينا كبشر، كذبا وزورا وبهتانا وعلى أمننا المطلوب ضاربين بذلك عدالة السماء عرض الحائط برغم شعاراتهم التي تتمنطق بالسماء والدين واخلاق المتدين، والكثير من المفردات الأخرى التي حلقت بمرموزاتها المسرحية التعبيرية الخلاقة من بداية العرض حتى نهايته بزمن 45 دقيقة فقط مرت علينا وكأنها 45 ثانية أو أقل.

في ضوء ما تقدم أقول: ما مقتضيات العرض المسرحي التي ينبغي أن نسميه عرضا مسرحيا: أولا – الابتكار في الإخراج والذي يلخص لنا معنى التجريب المسرحي. ثانيا –اللامتوقع فيما حول الرؤية الإخراجية، من اختيار المكان واختيار الموضوع، والإسقاطات الواضحة على الواقع المعيش بشكل مطلق، وليس محصورا وضيقا على جماعة دون أخرى. ثالثا – ضبط إيقاع العرض في ضوء نبض المخرج نفسه، فنقبض على نبض العرض المنسلخ من نبض المخرج ودقات قلبه المنفعلة مع جميع ثنايا عرضه. رابعا – عدم الشعور بزمن العرض مهما طال زمنه. خامسا – انغماس الممثل في دوره حد الذوبان فيه، حينها يتحقق الإيهام بمستواه الذي يجب، لدرجة أن ينسى الممثل أنه يمثل، وهكذا شاهدت الممثلين في عرض الصمت كأنني أشاهد فيديو وثائقي مباشر عما يحدث في الآن والهنا. سادسا –إنك تقبض على ذاتك كمتلق وسط فضاء العرض، كأنك هذه الشخصية أو تلك، لأن المتن الحكائي للعرض هو نفسه متنك الحكائي الذي تعيشه حاليا، أينما كنت مكانا وزمانا .. هذه النقاط الست، جميعها – برأيي النقدي – اجدها قد تحققت في عرض مسرحية “الصمت” بتكامل مسرحي خلاق.

د.محمد حسين حبيب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: المحتوى محمي !!