دراما وفنون

الفن الرفيع يخاصم البذاءة والابتذال

أظن أن عجلة الدراما الرمضانية دارت، وأن الاستوديوهات تعج الآن بعشرات الأعمال التى يتم تصويرها حاليًا كى تعرض فى شهر رمضان الكريم ٢٠٢٦. وأتخيل أيضًا أن كُتّاب السيناريو والحوار والمخرجين والممثلين يبذلون أقصى جهودهم من أجل الظفر بالإعجاب حين تهل أنوار الشهر المبارك.

كل ذلك جميل ومهم، ولكن السؤال.. كيف ستعكس هذه الأعمال المزمع عرضها، سواء أكانت درامية أو سينمائية، أحوال الناس وأحلامها وآمالها فى مصر المحروسة؟. أذكر جيدًا أن أحد الشباب أرسل لى العام الماضى بعض المشاهد من أفلام ومسلسلات مصرية عُرضت فى السنوات الأخيرة يستخدم فيه الممثلون ألفاظا بالغة البذاءة بمعايير العُرف والتقاليد الاجتماعية والذوق السائد، وقد تعجبت كيف وافقت الرقابة على ذلك؟ لكن الشاب مضى يسألنى: (ما رأيك؟ إن تلك الألفاظ نسمعها يوميًا فى الشارع، وبالتالى يجوز استخدامها فى عمل فنى، حتى يصبح معبّرًا أصدق تعبير عن الواقع الغليظ الذى نعيشه). الحق أن مفهوم العلاقة بين الفن والواقع يعتريه تشويش كبير، إذ يزعم بعضهم أن الفن، خاصة السينما والدراما، ينبغى أن يكون «مرآة دقيقة» لكل ما يجرى فى حياتنا اليومية، بمعنى أن ما يقوله بعض الناس وما يتفوهون به من ألفاظ خشنة وعبارات فاحشة فى أحاديثهم اليومية يجب أن تنتقل من الشارع إلى الشاشة، حتى يغدو العمل الفنى (صادقًا).

من أسف، لا يدرك أصحاب هذا الزعم الخاطئ أن الإنسان (اخترع) الفن منذ آلاف السنين، أى فن، ليترفع ويسمو ويسعد ويستمتع، والبذاءة فى خصام دائم مع الرفعة والسمو والمتعة، فالفن لعبة جميلة يمارسها الإنسان ليبتهج ويفرح ويتجاوز الشقاء اليومى الذى يكابده. الفن إعادة صياغة للواقع. الفن محاولة مستمرة للرقى بهذا الواقع والتخفف من حمولاته التعسة. الفن رغبة جارفة لاكتشاف الجمال المخبوء فى حياتنا اليومية وإبرازه والحفاوة به.

إن الفيلم السينمائى مدته لا تزيد عن ساعتين فقط على الشاشة، بينما أحداثه قد تتجاوز عشرات السنين، فهل هذا «مرآة عاكسة تمامًا للواقع؟». هنا يكمن سحر الفن وعظمته. إنه تكثيف شديد للواقع وفق منطق معين ورؤية محددة، بهدف تحقيق المتعة والفائدة للمشاهد أو المتلقى.

فى كتابه «ضرورة الفن»، يشير الكاتب الألمانى أرنست فيشر إلى صيحة الشاعر الفرنسى جان كوكتو «الشعر ضرورة، وآهٍ لو أعرف لماذا؟»، مؤكدًا أن الإنسان (اخترع) الفن ليحقق التوازن فى الحياة، لأننا نعيش فى عالم غير متوازن، عالم مختل، عالم مضطرب! والفن هو الذى يسعى لإحداث قدر من التوازن النفسى للإنسان حتى لا ينتابه الجنون!. أما الفنان التشكيلى الرائد الأستاذ حسين بيكار «١٩١٣-٢٠٠٢»، فكان يقول لى: (يا ناصر، أنا أرسم الشخوص، رجالا ونساء، فى أجمل صورة).

هل تذكرون أفلام المخرج صلاح أبوسيف؟ لقد قدم لنا الأجواء الشعبية فى البيئة المصرية فى أفلام كثيرة، ولم يستخدم كلمة بذيئة واحدة. أرجو ألا تظن أننى أدعو بذلك إلى تزييف الواقع، أو خداع المشاهد، بل أطالب بأن نغوص فى هذا الواقع ونعصره ونفضح بؤسه وظلمه، ولكن بلغة فنية ذكية راقية تتواءم مع التقاليد المرعية، فهل ستسعد الأجيال القادمة بالبذاءة التى يتقزز منها معظم أبناء هذا الجيل؟. رجاء خاص إلى الذين يصنعون الأفلام والدراما التليفزيونية: لا تلوثوا مفهوم الفن بزعم (الواقعية)!.

 

 

 

 

ناصر عراق

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: المحتوى محمي !!