ثقافة

بدور القاسمي: مشروع الشّارقة الثقافي جسرٌ للتفاهم بين الأمم

ونحن نترّقب افتتاح الدورة الرابعة والأربعين من معرض الشارقة الدولي للكتاب الأربعاء المقبل، تتجه الأنظار إلى شخصية استثنائية أسهمت في ترسيخ مكانة الشارقة عاصمةً للثقافة العربية والعالمية، وواجهة مضيئة لصناعة المعرفة والنشر في المنطقة والعالم.

إنها الشيخة بدور بنت سلطان القاسمي، التي تجسّد في مسيرتها الفكرية والعملية ملامح مشروع ثقافي متكامل، يقوم على رؤية إنسانية وثقافية رفيعة، ويستند إلى عمل مؤسسي منظم ودؤوب جعل من الثقافة ركيزة للتنمية وبناء الإنسان.

منذ انطلاقتها الأولى حولت الشيخة بدور بنت سلطان القاسمي شغفها بالقراءة إلى فعل مؤثر ومؤسسات فاعلة، فأسست مجموعة «كلمات» التي أعادت الاعتبار لأدب الطفل العربي، ثم تولّت رئاسة هيئة الشارقة للكتاب لتواصل عبرها مسيرة والدها صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى، حاكم الشارقة، في جعل الكتاب محوراً للحياة الثقافية ومنصة للتواصل الإنساني والحضاري.

وفي هذا الحوار الشامل، تكشف الشيخة بدور القاسمي عن ملامح تجربتها ومسيرتها الملهمة، وتتحدث عن بداياتها الأولى مع الكتاب، وعن قيادتها لمشروعات رائدة في النشر وصناعة المعرفة، مستندة إلى خبرتها الدولية كرئيسة سابقة للاتحاد الدولي للناشرين، وإشرافها الحالي على استراتيجية هيئة الشارقة للكتاب. كما تتناول رؤيتها لدور المرأة الإماراتية في المشهد الثقافي عموماً، وقطاع النشر على وجه الخصوص، مؤكدة أن الثقافة لم تعُد ترفاً، بل هي أداة للتنمية، وجسر للتواصل بين العقول والحضارات.

امتداد طبيعي

في البداية تقول الشيخة بدور بنت سلطان القاسمي عن النشأة والتكوين: «منذ النشأة، لم تكن علاقتي بالثقافة مجرّد شغف شخصي أو خيار مهني، بل كانت امتداداً طبيعياً لبيئة تربوية غنيّة بالمعرفة، قادها والدي صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى، حاكم الشارقة، الذي كان ومازال مدرسة فكرية وإنسانية متكاملة.

نشأت في بيت يرى في الكتاب مفتاحاً للعِزة والكرامة، وفي المعرفة مسؤولية أخلاقية، وفي الهوية الثقافية حصناً يحمي الأفراد والأمم، هذا التكوين منحني منظاراً يوازن بين الأصالة والانفتاح، وبين الجذور والطموح. كما ترسّخ في وعيي منذ سنوات التكوين أن المسؤولية قيمة جوهرية في حياة الإنسان، وأن القيادة تبدأ من حُسن أداء الأمانة في أبسط التفاصيل، تعلمت أن المهمات التي نختارها تشكّل معنى وجودنا، وأن المبادرة، حين تُبنى على الإخلاص والرؤية، تتحول إلى مصدر لحياة أكثر عمقاً واتساعاً، فكانت التجارب اليومية في محيط الأسرة، ومجالسة والدي وهو يخطط ويكتب ويتحدث، كفيلة بزرع هذا المفهوم في داخلي، ومن هنا ارتبط لديّ العمل العام بالشغف والواجب معاً، وأصبح لكل خطوة في المسار المهني بعدها الإنساني والروحي».

الثقافة كمشروع

وعن الثقافة باعتبارها مشروعاً شديد الأهمية، تقول الشيخة بدور القاسمي: «في الشارقة، ليست الثقافة نشاطاً مكمّلاً، بل هي المشروع ذاته، مشروعٌ وُلد من رؤية سامية أرسى دعائمَها صاحبُ السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، فجعل من المعرفة حجرَ الأساس في بناء الإنسان والمجتمع.

لم ينشأ هذا المشروع من ظرفٍ عابر، بل من قناعةٍ ممتدّة بأن الثقافة هي الوعاء الأعمق لحفظ الهوية، وبوصلةٌ تهدي إلى خياراتٍ أكثر اتزاناً واستدامة». 

وتابعت: «على المستوى العربي، يمضي مشروع الشارقة الثقافي امتداداً لرؤية صاحب السمو حاكم الشارقة في دعم الثقافة العربية، وتوفير المنصّات التي تكرّس حضورها، وتُعلي من شأن رموزها ومبدعيها.

وفي امتداده العالمي، يعبّر عن وفاءٍ عميق للمشترك الإنساني، ويجسّد احتراماً للتعدّد والتنوّع بوصفهما مصدرَ غنى لا تعارض فيه، بل تكاملٌ يؤسّس لحوارٍ حضاري يضع الإنسان في مركزه، ويمنح الثقافة دورَها الطبيعي جسراً للتفاهم بين الأمم.

مؤكدة أن صاحبِ السمو الشيخِ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي لديه رؤيةٌ ثقافيةٌ عابرةٌ للحدود، تؤمن بأنّ الثقافة في جوهرها حوارٌ مع الحضارات، وأن اللغةَ والمعرفةَ هما الجسرُ الأصدقُ لبناء التفاهم الإنساني». 

صفحة جديدة

وتحدّثت الشيخة بدور القاسمي عن الانطلاقات الدولية المشهودة، خاصة المعهد الثقافي العربي في إيطاليا، ومركز الدراسات العربية في جامعة كويمبرا في البرتغال قائلة: «في ميلانو، بدا المعهد الثقافي العربي كأنه كتاب مفتوح على صفحة جديدة من العلاقة بين الثقافتين العربية والأوروبية، في قاعاته وردهاته، تُزرع البدايات الأولى لشراكات فكرية وأدبية وفي جميع مجالات صناعة المعرفة، ولذلك أراد حاكم الشارقة، لهذا المعهد أن يكون مساحة للطلبة والباحثين والشباب، ومكاناً يلتقون فيه على أرضية مشتركة من الإبداع.

وقد بدأت ورش الخط العربي والبرامج الإبداعية في بثّ الحياة في هذا الجسر الجديد، لتجعل منه نقطة تواصل حقيقية، تمضي بالثقافة العربية نحو قارئها الجديد، الباحث عنها بشغف في عاصمة من عواصم الجمال العالمي.

أما مركز الدراسات العربية في جامعة كويمبرا فـي البرتغال، فجاء نتيجة الحاجة لتعريف الآخر بجوهر اللغة العربية، بما تحمله من عمق تاريخي، وغنى دلالي، ورؤية إنسانية تشكّلت عبر قرون من التفاعل مع الفكر والعلم والجمال، فاللغة العربية هي مرآة لثقافةٍ بأكملها، ومفتاح لفهم حضارةٍ أسهمت في صياغة جزءٍ كبير من الذاكرة الإنسانية، من هنا تبرز أهمية هذا المركز الذي يفتح نوافذ جديدة لاكتشاف هذه الثقافة بعيداً عن الصور النمطية والانطباعات العابرة، فكل جهد يُبذل لتعليم العربية وتعريف الناس بآدابها وفنونها وتاريخها، هو استثمار في بناء فهم أعمق وتمكين حوار متكافئ، يجد فيه الآخر نفسه أمام تراث يتجاوز الجغرافيا ويخاطب الإنسان في إنسانيته».

مرآة دقيقة

عن الأدب عموماً، أوضحت الشيخة بدور أن الأدب مساحة يتقاطع فيها الإنسان مع تاريخه، ومجتمعه، وعالمه الداخلي، وفي لحظات التحول السريعة، يصبح الأدب مرآة دقيقة تعكس ما يحدث، وتمنح القارئ أدوات لفهمه وتجاوزه، فاللغة الأدبية تلتقط ما لا يُقال في العناوين، وتُعيد ترتيب التفاصيل الصغيرة لتكشف المعنى الأكبر، الذي يتشكّل في حياة الناس، وتعيد وصل ما تفتّت من ذاكرة وهوية وانتماء. 

مجموعة كلمات

وعن مجموعة «كلمات»، تقول الشيخة بدور القاسمي: «عندما أسستُ «كلمات» في عام 2007، كان ذلك استجابة لحاجة واضحة في عالمنا العربي، ألا وهو: توفير محتوى نوعي للطفل واليافع مما يسهم في ترسيخ الهوية وتغذية الخيال، انطلقت من قناعة راسخة بأن الكتاب الموجّه للأجيال الجديدة ليس ترفاً، بل حجر الأساس في بناء إنسان واثق من جذوره ومنفتح على العالم.

فمنذ انطلاقتها، لم تكن «كلمات» مجرد دار نشر، بل مشروعاً استراتيجياً يواكب التحولات في قطاع النشر ويستجيب لاحتياجات القراء الصغار وتطلعات عائلاتهم.

مضيفة، واليوم تعمل المجموعة على تلبية رغبات القارئ العربي، من حيث جودة المحتوى، وثراء الموضوعات، وأساليب العرض الحديثة، لتمنحه تجربة قرائية تُراعي تنوع اهتماماته وتطلعاته».

دور المرأة

وعن دور المرأة في مجال النشر محلياً وعربياً، أشادت الشيخة بدور القاسمي بدور المرأة قائلة: «المرأة تلعب دوراً محورياً في تقدم وتوازن صناعة النشر، لأنها نصف المجتمع، وحاضنة لوجدانه، والمعبّر الأول عن صوت الأسرة والمجتمع.

من هنا يصبح حضورها في هذه الصناعة ليس مجرد إضافة، بل ضرورة لضمان تنوع الرؤية وعدالتها.

وعندما نتأمل المشهد الثقافي اليوم، نجد أن مساهمات المرأة في صناعة النشر تشكل جزءاً حيوياً من الحراك الإبداعي والمعرفي في العالم العربي.

هذا الدور لا يرتبط فقط بالكمّ، بل يتجلى في نوعية الرؤى التي تضيفها المرأة إلى هذه الصناعة، وفي قدرتها على قراءة المجتمع بعينٍ إنسانية شاملة، تُصغي للتحولات وتستبق التحديات».

النضج والتأثير

وعن المستوى الذي وصلت إليه الثقافة المحلية تقول: «تتجه الثقافة الإماراتية نحو مرحلة أكثر نضجاً وتأثيراً، مرحلة تُبنى فيها السياسات الثقافية على التمكين طويل الأمد، وتتكامل فيها الأدوار بين المؤسسات والمجتمعات الإبداعية.

فهناك توجه واضح لتعزيز الاستثمار في الصناعات الثقافية والإبداعية، وفتح مساحات أوسع أمام الأجيال الجديدة لتروي قصصها بوسائلها الخاصة، سواء عبر الكتاب أو الصورة أو التكنولوجيا».

الثقافة العربية

وفي سياق المنطقة العربية وما تحتاج إليه من تطوير للسياسات الثقافية، التي تعزّز الاستدامة وتربط الثقافة بالاقتصاد والتعليم والتكنولوجيا، أكدت الشيخة بدور القاسمي أن السياسات الثقافية التي تنظر إلى المستقبل، تحتاج أولاً إلى أن تُبنى على فهم دقيق لآليات التحوّل في المجتمعات العربية، لإعادة تعريف دور الثقافة في الحياة اليومية.

حين تُربط الثقافة بالاقتصاد، تصبح جزءاً من منظومة إنتاج معرفي وقيمي تسهم في توليد فرص العمل، وتُعزز من حضور الصناعات الإبداعية بوصفها روافد حقيقية للنمو.

المشهد الثقافي 

بالنسبة للمشهد الثقافي الإماراتي اليوم، نوّهت الشيخة بدور بأنه متعدّد الطبقات، فيه الجذور العميقة، وفيه القفزات الحديثة، فيه الأصالة بامتداد التاريخ، وفيه التعدد بانفتاح على المدن العالمية.

ما يميّز هذا المشهد هو أنه يُبنى على وعي استراتيجي بأهمية الثقافة في تشكيل المستقبل، وليس فقط في الحفاظ على الماضي.

فنحن نحتفل بالثقافة كتراث، وقوة وبنية تحتية، ورافد للهوية والاقتصاد والحضور الدولي، وكل ذلك يتم بفضل رؤية قيادة تعتبر الثقافة جزءاً من مشروع بناء أمة وحضارة.

 

 

 

هزاع أبو الريش – جريدة الإتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: المحتوى محمي !!