أخبار مسرحية

بطلات شكسبير يتحدثن عن أنفسهن

يشكون من أن الشاعر لا يمنحهن اهتماماً كافياً مثل الرجالد.

إذا ذكر اسم شاعر الإنجليزية الأكبر وليم شكسبير (1564 – 1616) ترد على الذهن لأول وهلة أسماء أبطاله من أمثال هاملت وماكبث وعطيل ولير ويوليوس قيصر، أو أشراره من أمثال المرابي شايلوك الذي أراد أن يقتطع رطلاً من لحم المدين، أو ياجو الذي سمم ذهن عطيل وجعله يشك في عفاف زوجته البريئة دزدمونة. ولكننا قلما نفكر في بطلاته من النساء، أو نحن على الأقل لا نفكر فيهن إلا من حيث هن توابع – في حبكة المسرحية – للرجال، ولسن كائنات لها وجودها الإنساني المستقل وأفكارها ومشاعرها وخيرها وشرها. وهكذا فإننا لا نذكر أوفيليا إلا من حيث علاقتها بهاملت، ولا جوليت إلا لأنها محبوبة روميو، ولا كورديليا إلا لأنها ابنة الملك لير.

ظل الحال كذلك في أغلب النقد المكتوب عن شكسبير في القرن التاسع عشر إلى أن بدأ أنصار الحركة النسوية يوجهون النظر إلى هذا الخلل الفادح في قراءتنا لأعماله، وبدأت تظهر كتب كاملة عن النساء في مسرحه، أحدثها الكتاب الذي أقدمه هنا: كتاب عنوانه «إنها تتحدث! ما كانت نساء شكسبير خليقات أن يقلنه»

She Speaks! What Shakespeare›s Women might have Said

من تأليف الناقدة هاريت والتر Harriet Walter التي سبق أن أصدرت كتاباً عنوانه «بروتس وبطلات أخريات» (2016). والمفارقة المقصودة في العنوان واضحة، فبروتس (في مسرحية «يوليوس قيصر») رجل وليس امرأة.

والكتاب صادر عن دار النشر الإنجليزية «فيراجو» Virago وهي دار متخصصة في نشر الأدب النسائي إبداعاً ونقداً. يقع في 238 صفحة، وتحليه رسوم بريشة الرسامة كاي بلجفاد Kay Blegvad.

الكتاب ناطق بلسان بطلات شكسبير؛ إذ يتحدثن من منظور أنثوي شاكيات من أن الشاعر لا يمنحهن في مسرحياته اهتماماً كافياً كالاهتمام الذي يوليه لأبطاله من الرجال رغم أهمية الدور الذي يلعبنه. فليدي ماكبث، مثلاً، هي التي حضت زوجها على قتل الملك دنكان واعتلاء العرش مكانه، وعقوق الابنتين ريجان وجونريل (على العكس من وفاء شقيقتهما الصغرى كورديليا) هو ما دفع بالأب العجوز لير إلى حافة الجنون، وهكذا.

تقدم المؤلفة لكل بطلة من بطلات شكسبير بمقدمة وجيزة تشرح شخصيتها ودوافعها وتصرفاتها. وفي عرض للكتاب في «ملحق التايمز الأدبي» (28 مارس/ آذار 2025) تلاحظ الناقدة لوي بوتر Louis Potter أن شكسبير حرص على تنويع اللغة والأعاريض التي تتكلم بها الشخصية: فميراندا (في مسرحية «العاصفة») تتحدث بشعر حر متحرر من بحر الأيامب الخماسي الذي تتحدث به سائر الشخصيات (بحر الأيامب مكون من خمس تفاعيل كل منها يتضمن مقطعين أولهما غير منبور والثاني منبور). والأميرة كاثرين الفرنسية (في إحدى مسرحيات شكسبير التاريخية) تتحدث بخليط من الإنجليزية والفرنسية.

 

تقدم المؤلفة لكل بطلة من بطلات شكسبير بمقدمة وجيزة تشرح شخصيتها ودوافعها وتصرفاتها

 

 

وتضم مؤلفة الكتاب كاليبان (وهو مسخ ذكوري شائه في مسرحية «العاصفة» وابن لساحرة تدعى سيكوراكس) إلى زمرة البطلات لأنها تعده – مثل الجني اللطيف آريل في المسرحية نفسها – امرأة مسجونة.

وجرترود أم هاملت تقر بأنها رسمت صورة مثالية جميلة لانتحار أوفيليا غرقاً (للشاعر والكاتب المسرحي الألماني برخت قصيدة يصف فيها موت أوفيليا). ومن ابتكارات المؤلفة (التي لم ترد عند شكسبير) أنها تجعل أوفيليا تقول إنها حذت حذو هاملت فلم تكتفِ فقط بالتظاهر بالجنون وإنما تظاهرت أيضاً بأنها ماتت، وهي ما زالت على قيد الحياة، ثم لجأت إلى دير جمع شمل نساء ينشدن التوبة والمغفرة. وليدي كابيولت، أم جوليت، تعبر عن أسفها لأن صلتها بابنتها جوليت لم تكن صلة وثيقة.

وفي مجال النظم تعيد مؤلفة الكتاب صياغة مونولوج لأوفيليا مستخدمة أنصاف قوافٍ. وفي مواضع أخرى تستخدم مزدوجات (أي أزواجاً من الأبيات) مقفاة، وشعراً حراً، وأغنيات، وسوناتات مكونة من أربعة عشر بيتاً، ومونولوجات نثرية.

ولا أدلّ على أهمية الدور المحوري الذي تلعبه النساء في مسرح شكسبير من أنه يضع على ألسنتهن بعضاً من أخلد الشعر وأعلقه بالذاكرة كأن تقول ليدي ماكبث، مثلاً، وهي تغري زوجها بقتل الملك وقد لمست في الزوج تردداً: «أنا أرضعت من لباني وأدري رقة الحب للوليد الرضيع ـ غير أني لو كنت أقسمت في الأمر يميناً كما عقدت يمينك ورنا الطفل باسماً نحو وجهي لانتزعت الثدي الذي في لثاه الغض حتى أدق عظم دماغه» (من ترجمة محمد فريد أبو حديد للمسرحية شعراً مرسلاً).

كلمات مخيفة لو صدرت عن رجل لراعتنا، فما بالك وهي تصدر عن امرأة يفترض أن صدرها – الذي عرف الأمومة – يدر بالحنان والرحمة!

ومن تمام عبقرية شكسبير، وعمق فهمه لتعقيدات الطبيعة البشرية، أنه لا يجعل من قائلة هذه الكلمات شراً خالصاً؛ فهي، من نواحٍ أخرى، زوجة فاضلة مخلصة لزوجها تريد له أن يرقى إلى أعلى المراتب وإن أخطأت تبيُّن السبيل.

ثم هي لا تلبث – بعد الخوض في بحر الدماء – أن يتولاها الشعور بالذنب فتختل قواها العقلية، وتسير في نومها وهي تهذي قبل أن تموت. هكذا يرسم شكسبير الشخصية بكل أبعادها من خير وشر. أو كما تقول الشاعرة آجنس لي Agnes Lee في قصيدة لها عن شكسبير (لندع الكلمة الأخيرة للنساء):

لأنه مغني عصر، تغنى

بعواطف العصور.

كانت الإنسانية ذاتها هي التي وثبت

إلى الحياة على صفحاته.

لم يرو حكاية كائن واحد ـ إنما تنبض

كل الكائنات على قلمه.

وعندما كان يجعل رجلاً يسير في الشارع

كان مليون رجل يسيرون من ذلك الحين فصاعداً.

د.ماهر شفيق فريد – الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: المحتوى محمي !!