بغداد تنتفض وهجا فى مهرجانها المسرحى الدولى

“رقصة النسيج” يحتف يبتراث الهند وعمال .. ويستحق الأفضل
أثبتت بغداد أنها ستظل صامدة ضد كل محاولات التشويه والدمار والمحو، وأثبت مسرحيوها أنهم متحصنون بالأمل، متشبثون بما يزرعه المسرح من تنوير ووعى فى وجدان شعبهم الأبّي، داوت بغداد أوجاعها بالمسرح وأعادت كتابة حاضرها بمداد تاريخها العريق الموغل فى القدم.
ولمَ لا، وقد عاش الجمهور العراقى حالة تدفق كاسح على مسارح المدينة التاريخية طوال أيام مهرجان بغداد المسرحى الدولى السادس «دورة الفنان المخضرم د. ميمون الخالدي)»، برئاسة المتفانى د. جبار جودى نقيب الفنانين العراقيين ومدير دائرة السينما والمسرح، وهو الذى وصل الليل بالنهار ليخرج بهذا الحدث إلى النور، نور ساطع براق بنكهة الحرية وبإدارة واعدة وواعية للفنان د. حاتم عودة وكامل فريق العمل.

سبعة أيام كاملة من عمر المهرجان رسمت البهجة على وجوه العراقيين القادمين من كل حدب وصوب لمتابعة فاعلياته، احتشدت جهود المسئولين لإنجاح الحدث، ولخدمة ضيوف المهرجان ولإقامة فاعلياته فى مواعيدها، فتدفُق الجمهور غير المسبوق على مسارح المدينة الرئيسية؛ المسرح الوطنى، مسرح الرشيد وقاعة المنصور كان لافتا، الكل يبحث عن مقعد لنيل قدر من متعة الفرجة، وإذا تعذّر، فلا مانع من المشاهدة وقوفا طوال العرض.
حالة ثراء بالغة، فرجةً وإبداعا، خاصة أمام هذا الزخم والتنوع والجودة فى الرؤى والمدارس المسرحية من داخل العراق وخارجها، سواء أوروبا أو آسيا، فقد أنتجت الدورة أربعة عروض خصيصا للمهرجان، وهى مأتم السيد الوالد تأليف وإخراج مهند الهادي، طلاق مقدس تأليف وإخراج د. علاء قحطان، نحن من وجهة نظر قط تأليف وإخراج أنس عبدالصمد وشاركت فى المسابقة الرسمية، بينما شارك العرض الرابع «المربع الأول» خارج التسابق.
دارت كثير من عروض المهرجان فى فلك مآسى الحروب وتأثيرها الدامي، سعيا لانتصار صوت العدالة التى ترشد الباحثين عن هويتهم إلى بر الأمان، فقد ناقش مثلا العرض البولندى «الصمت» معاناة الإنسان المحاصر بالفقد نتيجة العنف والإرهاب واستثمر المخرج ساحة الاحتفالات الكبرى فى صياغة نسيج درامى من ممثلين فى حافلة يتعرضون لإرهاب قاتل وتتناوب لوحات العرض فى ثنائية الموت والحياة مستغلا دمى لأطفال راحوا ضحية هذا الإرهاب، ورغم الإفراط فى لوحات الدمار إلا أنه تميز تمثيلا وسينوغرافيا.

واستحق عرض رقصة النسيج جائزة أفضل عرض فى المهرجان بفضل رؤية مخرجه راما كالينكال الذى استطاع أن يطرح قضية محلية بمنظور عالمى يتفاعل معه الآخر، وهى قضية عمال النسيج فى الهند البالغ عددهم أكثر من 45 مليون عامل باعتبار النسيج هو ثانى أكبر قطاع اقتصادى فى الهند بعد الزراعة، فكثف المخرج يوم عامل النسيج بين الخيوط والمدابغ والمصانع فى 60 دقيقة مستبدلا الحوار المسرحى بلغة الجسد والأداء الحركى والكريوجراف، ورغم الفضاء المسرحي، إلا أننا شاهدنا عالم النسيج كاملا موزعا بين الأداء الحركى والموسيقى والمؤثرات الصوتية مستعرضا هذا العالم دون تجاهل جاذبية الرقص الهندى التقليدى وأزيائه الشهيرة، لنرى صورة بانورامية رائعة للفنون الهندية وتراثها، وهو ما استحق عليه عدة جوائز وخاصة الموسيقى والمؤثرات الصوتية التى أوصت لجنة الحكيم برئاسة المخرج جواد الأسدى أن تضاف إلى قائمة الجوائز فيما بعد، وهو ما يرسخ قيمة ذلك العنصر لنضم صوتنا لصوت اللجنة بضرورة منح عنصر الصوت والمؤثرات الصوتية حقه فى تخصيص جائزة له فى مختلف مهرجانات المسرح العربية.
أما العرض العراقى مأتم السيد الوالد الفائز بجائزة إخراج لمهند الهادى فقد نجح فى رصد فكرة السلطة سواء الخارجية أو الداخلية التى تتحكم فى سلوكيات البشر وكيف يمكن أن تتحول إلى آلة دمار شامل من خلال اسرة يرتدى افرادها أقنعة الدهاء والمكر والأنانية والتحكم وما إلى ذلك، فى طرح رمزى بالغ الرهافة يدعو إلى التأمل من خلال توظيف المخرج للسينوجرافيا المتحركة الباعثة على يقظة الجمهور للتفكير فى تساؤلاته المهمة.
المهرجان شاهد على عظمة العراق وقدرتها على الصمود أمام نوائب الدهر، وأطماع المحتل، وفرصة يغتنمها شعبه الأصيل ليراوح عنه نفسه ويتشبث بأنفاس الحرية والأمل فى غد أفضل وصدق المتنبى حين قال:
من أسكن الشاعر الولهان موطنه
بغداد أنت نجوم الليل والظلم
بغدادُ أنت شفاء العين من رمد
بغداد أنت لقاء الله بالأمم
باسم صادق