أخبار مسرحية

بين ‘مطهر’ و’سحر البرلس’: المكان حين يتحول إلى بطل مسرحي

د.سمر علي الجداوي تؤكد في دراستها أن امتلاك النساء لمكان خاص بهن هو نقطة الانطلاق الأساسية نحو التغيير.

يظن البعض أن المكان في عالم المسرح مجرد ديكور صامت أو خلفية للأحداث، لكن الحقيقة أنه قادر على أن يكون شخصية فاعلة، تتنفس وتؤثر وتقاوم. هذا ما تكشفه الباحثة د. سمر علي الجداوي، المدرس المساعد بقسم اللغات السامية (شعبة اللغة العبرية وآدابها) بكلية الألسن – جامعة عين شمس، في دراستها” فاعلية المكان في النص المسرحي النسوي – دراسة ثقافية مقارنة بين مسرحيتي مطهر لهدار جالرون وسحر البرلس لداليا بسيوني”، والتي حصلت بها على درجة الدكتوراه مؤخرًا.

في هذه الدراسة، وضعت الباحثة المكان في قلب النص المسرحي النسوي، باعتباره قوة مؤثرة ومؤثَّرة في الوقت نفسه. فهو أحيانًا يتحول إلى أداة قمع للنساء، وأحيانًا أخرى يصبح فضاء للتحرر وإعادة اكتشاف الذات. ومن هذا المنطلق جاءت المقارنة بين مسرحيتين تنتميان إلى ثقافتين مختلفتين “مطهر: حكاية نساء ومكان” للكاتبة الإسرائيلية هدار جالرون، و”سحر البرلس” للكاتبة المصرية داليا بسيوني.

في المسرحية الأولى، يأخذنا النص إلى داخل فضاء ديني مغلق هو “المطهر”، حيث تذهب النساء اليهوديات المتدينات (الحريديات) شهريًا لممارسة طقوس الطهارة. المكان هنا ليس مجرد غرفة طقسية، بل رمز لمنظومة اجتماعية ودينية تفرض على النساء قيودًا صارمة تتحكم في أجسادهن وحيواتهن.

تُسلط المسرحية الضوء على قصص سبع نساء يلتقين في هذا المكان. ومع تكرار لقاءاتهن الشهرية، يبدأن في مشاركة حياتهن الخاصة مع بعضهن البعض: قمع، استغلال، عنف أسري. شيئًا فشيئًا، يستغللن وجودهن معًا ليحوّلن المطهر من فضاء ضبط إلى مساحة للتمرد. لكن التمرد لا يمرّ بلا ثمن، إذ يجدن أنفسهن محاصَرات من قبل رجال “حُراس العفة”، ويُتَّهَمن بالخروج عن الدين، ويُطالَبن بمغادرة المكان.

وإذا كان المطهر يمثل فضاءً مغلقًا تحكمه الطقوس الصارمة، فإن مسرحية “سحر البرلس” تنقلنا إلى فضاء يبدو للوهلة الأولى أكثر انفتاحًا وبهجة. تدور الأحداث في قرية متخيلة تُدعى “أبو سالم”، مطلة على بحيرة البرلس. هناك، وفي الليالي التي يكتمل فيها القمر، تجتمع نساء القرية على ضفاف البحيرة. يرقصن ويغنين، يتعلمن القراءة والكتابة، ويتبادلن المعارف حول دورة القمر وعلاقتها بدورة الجسد الأنثوي. تبدو الصورة شاعرية: القمر ينعكس فوق الماء، وأصوات النساء تتعالى بالغناء. لكن خلف هذا الجمال يكمن الخطر. سرعان ما تنتشر شائعة في القرية تتهمهن بممارسة السحر والشعوذة. العمدة يتدخل، يأمر بالقبض عليهن وتقديمهن للمحاكمة، وتنتهي الحكاية بمشهد مأساوي: النساء يُحرقن داخل محبسهن.

ترى الباحثة أن المكان في المسرحيتين لم يعد مجرد إطار للأحداث، بل بطل فاعل يحمل دلالات القهر والتحرر في الوقت نفسه. في “مطهر”، المكان الديني يتحول من رمز للطهارة إلى مساحة للتمرد. وفي “سحر البرلس”، البحيرة تتحول من فضاء تحرري مضيء إلى سجن يحاصر أحلام النساء حين يتدخل المجتمع الأبوي.

اللافت أن المسرحيتين تلتقيان عند فكرة الطقوس النسائية. هذه الطقوس، التي قد تبدو بسيطة أو اعتيادية، تحمل قوة رمزية في تفكيك البنى الأبوية وإعادة صياغة المكان كفضاء بديل للهوية النسوية. ومن خلالها، تكشف المسرحيتان عن أنماط متكررة من العنف ضد المرأة: العنف الجسدي، تشويه السمعة، زواج القاصرات. كلها أنماط تتجذر في مجتمعات مغلقة، سواء كانت قرية مصرية صغيرة أو مجتمعًا حريديًا إسرائيليًا.

المثير أن الكاتبتين، جالرون وبسيوني، لم تلتقيا يومًا ولم تتأثرا بشكل مباشر ببعضهما البعض. ومع ذلك، تشابهت رؤاهما ومعالجتهما للقضايا النسوية. تفسر الباحثة هذا بالتأكيد على انفتاح كل منهما على الأدب النسوي العالمي، لاسيما المسرح الإنكليزي، بما أتاح لهما رؤية تتجاوز حدود المكان والجغرافيا.

وفي ختام دراستها التي نالت بها درجة الدكتوراه، تؤكد د.سمر علي الجداوي أن امتلاك النساء لمكان خاص بهن هو نقطة الانطلاق الأساسية نحو التغيير. المكان، كما تكشف المسرحيتان، لم يعد مجرد خلفية ساكنة للأحداث، بل فاعل درامي يسهم في بلورة خطاب نسوي متمرد ومقاوم.

ففي “مطهر”، يتحول فضاء الطقوس الدينية إلى مساحة للبوح والمقاومة، وفي “سحر البرلس”، تتحول البحيرة إلى نافذة لوعي نسوي جديد، رغم محاولات المجتمع لإخماده.

هكذا تسعى الكاتبتان، كل بأسلوبها، إلى إعادة تعريف المكان: من قيد خانق إلى فضاء حر، ومن جدار صامت إلى بطل يقود رحلة المقاومة.

وفي النهاية، يبدو أن النساء حين يمتلكن مكانهن الخاص، لا يكتفين بتغيير مساحتهم الصغيرة فحسب، بل يفتحْنَ أفقًا لوعي جديد، حيث يتحول المكان نفسه إلى وطن لذواتهن.

 

محمد الحمامصي

middle-east-online.com

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: المحتوى محمي !!