تأسيس قاعدة أفلام تجارية متينة شرط ضروري لنجاح سينما المؤلف المغربية
سينما المؤلف لا تسعى للربح بل تهدف إلى بناء خطاب بصري وفكري مؤثر.

تنطلق أزمة سينما المؤلف المغربية من طبيعتها الفنية ذاتها التي لا تتناسب مع الجمهور العريض فهي تتوجه إلى جمهور محدود لديه استعداد ذهني وجمالي للتفاعل مع العمل، لذلك فإن السينما في حاجة إلى قاعدة قوية من الأفلام التجارية والاقتصادية لتساهم في دعم سينما المؤلف النخبوية.
تُشكّل سينما المؤلف في المغرب مساراً فنياً يثير نقاشاً متواصلاً داخل الأوساط السينمائية والثقافية، لأنها تعبّر عن رؤية ذاتية واعية تسعى لتقديم طرح جمالي وفكري متماسك، يختلف عن المنطق التجاري السائد في السوق. هذه السينما تقترح لغة بصرية تنطلق من موقف فكري وشخصي للمخرج، وتطرح قضايا إنسانية واجتماعية وثقافية بأسلوب تعبيري خاص، إلاّ أنّ هذا التوجه الفني يجد نفسه في مواجهة واقع سوق سينمائية محكومة بمعايير جماهيرية، تميل إلى تفضيل الأعمال التجارية ذات الطابع الكوميدي أو الميلودرامي سهل التلقي، فتظل الأفلام المؤلفة عاجزة عن الصمود في القاعات أكثر من أسابيع معدودة، بينما تتواصل العروض التجارية لأشهر.
فقبل أن يتبجح ويتفاخر أشباه النقاد بنظريات السينما، والجماليات، والذوق، وبيع الوهم للمخرجين المغاربة، يجب على النقاد والمثقفين المغاربة أن يفهموا جيداً أن مستقبل السينما المغربية، كما هو الحال مع أيّ سينما في العالم، لا يمكن أن يُبنى دون قاعدة قوية من الأفلام التجارية والاقتصادية، فهذه القاعدة تمنح الصناعة الاستقرار المالي والقدرة على الاستمرارية، وتفتح المجال أمام صناع الأفلام للابتكار والتجريب دون أن يظلوا رهائن لغياب الموارد.
وبدأت الصناعة السينمائية تجارية، ثم تأسست على مداخيل وشباك تذاكر، ثم جاءت لحظة الإبداع الفردي لكل مخرج، ليخلق سينما المؤلف الخاصة به، التي ليست بالضرورة موجهة للجمهور العام، فمعظم صناع السينما العالمية يحققون أولاً نجاحهم المالي من خلال أفلام تجارية كبيرة تسمح لهم بالعيش والاستمرار، ثم يخصصون فيلماً أو فيلمين من سينما المؤلف لتحقيق ذواتهم الفنية والتاريخية. والتجربة المغربية يمكن أن تستفيد من هذا النموذج: صناعة تجارية قوية تُغذي وتدعم صانعي الأفلام المبدعين، ليصبح للمخرج المغربي مساحة حقيقية للتميز الفني مع الحفاظ على الاستمرارية الاقتصادية.
هذه المفارقة لا تقتصر على المغرب وحده، إذ تظهر أيضاً في أوروبا والولايات المتحدة التي تملك واحدة من أكبر صناعات السينما في العالم. فالأفلام المؤلفة هناك لا تحقق مداخيل مرتفعة في شباك التذاكر، غير أنها تحظى بتقدير كبير داخل المهرجانات والدوائر الثقافية المتخصصة، لأنها تنجز بجودة تقنية وفنية عالية، فتترك أثراً نقدياً وجمالياً طويل المدى وصناع الأفلام المغربية والنقاد يعرفون هذا جيدا في قرارات أنفسهم. ويكشف هذا التباين عن خلل هيكلي في علاقة سينما المؤلف المغربية بسوق العرض، وعن غياب التوازن بين الفن والاقتصاد، وعن هشاشة البنية الإنتاجية والتوزيعية.
حققت مجموعة من الأفلام التجارية المغربية في السنوات الأخيرة حضوراً قوياً في شباك التذاكر الوطني، واستطاعت أن تحافظ على عرضها في القاعات لفترات طويلة، الأمر الذي جعلها تتفوق على العديد من أفلام المؤلف من حيث الإقبال الجماهيري والعائدات المالية. وتتصدر هذه الأعمال أفلام هشام الجباري مثل “أنا ماشي أنا” و”حادة وكريمو”، اللذان حققا إيرادات مرتفعة تجاوزت 13 مليون درهم للأول مع بيع أكثر من 244 ألف تذكرة، وأكثر من 4 ملايين درهم للثاني مع 76 ألف تذكرة، وهي أرقام غير مسبوقة في تاريخ السينما المغربية الحديثة.
ويُضاف إلى هذه القائمة قبلهم بسنوات فيلم “الطريق إلى كابول” لإبراهيم الشكيري الذي رسّخ مكانته كواحد من أنجح الأعمال التجارية بعد أن استقطب عدداً كبيراً من المشاهدين، إلى جانب فيلم “الحنش” لإدريس المريني وفيلم “30 مليون” لربيع شاجيد، وهي أعمال جمعت بين الطابع الكوميدي والقصص الشعبية سهلة التلقي. كما حقق الفيلم الكوميدي “ماي فريند” للمخرج رؤوف الصباحي بدوره نجاحاً كبيراً، إذ تجاوز عدد مشاهديه 400 ألف متفرج خلال أشهر قليلة من طرحه، محطماً رقماً قياسياً جديداً في تاريخ القاعات المغربية.
وتدور أحداثه حول شاب يعيش في حي شعبي ويحلم بالهجرة إلى الولايات المتحدة، وقد شارك في بطولته يسار المغاري، طارق البخاري، عبدالإله عاجل، أيوب أبوالنصر ووداد المنيعي.
وتبين هذه النجاحات أن السوق السينمائي المغربي يشهد تحولات واضحة في ذوق الجمهور واتجاهه نحو الأفلام ذات الطابع الجماهيري القادرة على مخاطبة المزاج الشعبي بلغة بسيطة وسرد مباشر. ويظهر من هذه الأرقام أن هذا النوع من السينما هو الذي يضمن استمرارية العرض داخل القاعات ويمنح المنتجين ثقة أكبر في الاستثمار الذاتي، وهو ما أكد عليه هشام الجباري الذي أوضح أن ستة من أصل سبعة أفلام متصدّرة للإيرادات بين 2025 و2024 تم تمويلها من طرف منتجين مغاربة بمواردهم الخاصة. ويبرز هذا التحول وعياً جديداً بأهمية الصناعة المحلية في تنشيط السوق وتوسيع قاعدة الجمهور، مع الدعوة إلى دعم هذا المسار بسياسات ثقافية واستثمارية مدروسة.
وتنطلق أزمة سينما المؤلف المغربية من طبيعتها الفنية ذاتها. هذه الأفلام تميل إلى لغة بصرية متأملة، وإيقاع سردي هادئ، وتطرح أسئلة ثقيلة على المتلقي، فتتوجه إلى جمهور محدود لديه استعداد ذهني وجمالي للتفاعل مع العمل. والجمهور المغربي العريض لا يجد في هذا النوع من الأفلام ما يشبع حاجته إلى التسلية المباشرة. ويتوجه أغلبه إلى قاعات السينما بحثاً عن المتعة السريعة، وهذا يخلق فجوة حقيقية بين طبيعة العرض وطبيعة التلقي. وهذه الفجوة تدفع أصحاب القاعات إلى سحب الأفلام المؤلفة بسرعة بسبب ضعف الإقبال، فيتحول هذا النوع من السينما إلى ظاهرة نخبوية محصورة في المهرجانات.
◄ ستة من أصل سبعة أفلام متصدّرة للإيرادات بين 2025 و2024 تم تمويلها من طرف منتجين مغاربة بمواردهم الخاصة
◄السوق السينمائي المغربي يشهد تحولات واضحة في ذوق الجمهور واتجاهه نحو الأفلام ذات الطابع الجماهيري
وتتعمق الإشكالية أكثر بسبب هشاشة البنية الإنتاجية، لأن الأفلام المؤلفة في المغرب تُنجز بميزانيات محدودة، الأمر الذي يضعف قدرتها على المنافسة. كما أن ضعف الموارد المالية ينعكس على الصورة والصوت، ويؤثر على عملية الترويج، ويحد من فرص الانتشار، بينما الإنتاج التجاري يعتمد على آليات تسويقية واضحة، ويستفيد من دعم إعلاني قوي، ويستثمر في نجوم معروفين يجذبون الجمهور.
وهذه العناصر غير متوفرة في الغالب داخل مشاريع سينما المؤلف، فيظل الفيلم المؤلف أسير فضاء ضيق لا يتجاوز العرض المحدود، بينما يحصد الفيلم التجاري عائداً جماهيرياً ومالياً كبيراً. وتتسع الهوة أيضاً بسبب غياب شبكة توزيع فعالة قادرة على نقل الفيلم المؤلف من دائرة ضيقة إلى مجال أوسع، لأن عملية التوزيع في المغرب تفتقر إلى رؤية ثقافية متوازنة، إذ تتعامل القاعات مع الفيلم باعتباره سلعة تجارية مرتبطة بالإقبال.
وهذا المنطق التجاري الخالص يجعل الأفلام المؤلفة خارج المنافسة منذ البداية. فلا وجود لبرامج عروض خاصة، ولا لمسارات ترويج موجهة، ولا لتحفيز مؤسساتي يدعم هذا النوع من الإنتاج الفني. فتتحول السينما المؤلفة إلى كيان معزول عن الجمهور العام وينتظر حظ قبوله في المهرجانات العالمية.
ويتضح النموذج الأميركي بوصفه مرآة مقارنة تكشف ملامح الإشكال المغربي. ففي الولايات المتحدة، أفلام المؤلف لا تحقق أرقاماً مرتفعة في شباك التذاكر، غير أنها تُعرض في مهرجانات كبرى وتحصل على تقدير نقدي وجماهيري داخل أوساط النخبة الثقافية. فالمخرج المؤلف هناك يجد دعماً إنتاجياً وتقنياً محترماً، ويعمل ضمن صناعة سينمائية منظمة تمنحه الحرية الإبداعية مع ضمان جودة عالية. والجودة العالية تجعل الفيلم المؤلف حاضراً في الذاكرة السينمائية العالمية حتى إن لم يحقق أرباحاً تجارية كبيرة، بينما المخرج المؤلف في المغرب يواجه ضعف التمويل، وضعف البنية التقنية، وضيق القنوات التوزيعية، وغياب إستراتيجية طويلة الأمد.
وتفرض هذه المعطيات ضرورة التفكير في موقع سينما المؤلف داخل الحقل السينمائي المغربي، لأن هذا النوع من السينما لا يسعى إلى الربح السريع بقدر ما يهدف إلى بناء خطاب بصري وفكري مؤثر. غير أنّ غياب رؤية ثقافية واضحة يجعلها تنحصر في دائرة مغلقة. ووجود توازن نسبي بين الرهان الفني والحضور الجماهيري لا يتحقق إلا من خلال إستراتيجيات جديدة في الإنتاج والترويج. ويمكن أن يتجه المخرج المؤلف نحو سرد أكثر قرباً من الجمهور دون التنازل عن حسه الفني، وأن يُدمج لغة رمزية دقيقة داخل بناء درامي واضح يخلق تواصلاً مع المتلقي.
ويتطلب تطوير موقع سينما المؤلف المغربية إعادة بناء المنظومة السينمائية من أساسها. فدعم المهرجانات وحده لا يكفي. ومن الضروري وجود سياسات عمومية تشجع على عرض الأفلام المؤلفة في القاعات لفترات أطول، مع برامج تواصلية تُعرّف الجمهور بهذا النوع من السينما، ومع منصات رقمية ومنابر نقدية تخلق وعياً جمالياً متقدماً. وتطوير التوزيع يشكل محوراً أساسياً، إلى جانب الرفع من الجودة التقنية والإخراجية، لأن المخرج المغربي يفتقر إلى المحيط الإنتاجي والترويجي الذي يفتح له المجال.
ويُظهر المشهد المغربي أن إخفاق سينما المؤلف في الصمود داخل القاعات يبرز واقعاً اقتصادياً وثقافياً غير مهيأ لاستقبال هذا النمط من التعبير الفني. فالتجربة الأميركية تكشف أن الفيلم المؤلف قادر على العيش خارج السوق التجاري بفضل رصانته الفنية وقيمته الجمالية، فيما يظل الفيلم المغربي المؤلف عالقاً بين رؤية إبداعية فردية وبنية سينمائية هشة، وتجاوز هذا الوضع يتطلب إرادة مؤسساتية، ومجتمعاً نقدياً فاعلاً، وبرامج تواصلية تجعل هذه السينما جزءاً من الوعي الجماعي.
عبدالرحيم الشافعي