دراما وفنون

تكريم أحمد المعنوني يفتتح الدورة الخامسة والعشرين للمهرجان الوطني للفيلم بطنجة

عرض فيلمه الوثائقي "الحال" الذي يوثّق الموسيقى الشعبية المغربية والذاكرة الثقافية الوطنية.

شهدت الدورة الخامسة والعشرون من المهرجان الوطني للفيلم بطنجة افتتاحها بعرض فيلم “الحال” للمخرج أحمد المعنوني، في لحظة احتفالية أعادت للأذهان مكانة هذا العمل الوثائقي الرائد في السينما المغربية. وشهد الحفل تكريمًا رسميًا للمخرج تقديرًا لمساره الفني وإسهاماته البارزة في توثيق التراث السينمائي والثقافي الوطني. 
وصدر الفيلم سنة 1982، واعتُبر من أوائل الأعمال السينمائية التي تناولت الموسيقى الشعبية المغربية من زاوية وثائقية، عبر متابعة أنشطة مجموعة “ناس الغيوان” داخل بيئتها الأصلية بالحي المحمدي بالدار البيضاء خلال سبعينيات القرن الماضي. وقد وثّق المعنوني سهرات المجموعة وأغانيها التي عكست واقع المجتمع المغربي آنذاك، حيث جسدت الأغاني هموم الناس وطموحاتهم اليومية، ما جعل الفيلم سجلًا حيًا للواقع الشعبي والثقافي. 
وجاء هذا التكريم في الدورة 25 للمهرجان الوطني للفيلم بطنجة، كون أحمد المعنوني أحد الأعمدة المؤسسة للسينما المغربية الحديثة، فهو مخرج ومصور سينمائي وكاتب مسرحي ومنتج أفلام ترك تاريخ في الذاكرة البصرية الوطنية والمغاربية. وُلد في 25 نونبر سنة 1944 بمدينة الدار البيضاء، العاصمة الاقتصادية والثقافية للمغرب، في زمن كانت فيه المدينة تعيش تحولات صعبة على المستويات الفنية والسياسية والاجتماعية، وهذا جعلها حاضنة لموجات فكرية وإبداعية متعددة، وفي هذا المناخ، تبلورت ملامح شخصية المعنوني الفنية والفكرية، وتشكل وعيه الوطني والثقافي الذي صاحبه طوال مسيرته الإبداعية، ومنحه القدرة على المزج بين الحس الجمالي والبعد التراثي، في أعمال أصبحت علامات فارقة في تاريخ السينما المغربية. 
نشأ أحمد المعنوني في مدينة نابضة بالحياة والحركة الفكرية والثقافية، فتأثر بأجواء الستينيات والسبعينيات التي عرفت تفتّحًا سياسيًا وفنيًا في المغرب. وعاش عن قرب تحولات المجتمع المغربي، وشهد على النقاشات الكبرى التي عرفها الحقل الثقافي آنذاك، وهذا زرع فيه إحساسًا بالانتماء لهوية مغربية أصيلة، والتقط مبكرًا نبض الشارع وروح الطبقات الشعبية، وأدرك أن هذه الروح يمكن أن تكون مصدر إلهام لا ينضب في التعبير الفني، سواء من خلال المسرح أو السينما أو الصورة، بينما كانت الدار البيضاء فضاءً للتشكل الثقافي، ومنبعًا للذاكرة الجماعية التي ستنعكس لاحقًا في أعماله، خصوصًا في أفلامه الوثائقية التي خلدت ملامح الحي المحمدي وفرقة ناس الغيوان. 
واختار أحمد المعنوني أن يصقل موهبته بالدراسة الأكاديمية والفنية المتعددة، فشد الرحال إلى أوروبا، حيث درس المسرح في جامعة مسرح الأمم بباريس، ودرس الاقتصاد بجامعة باريس دوفين، قبل أن يلتحق بمعهد السينما «LINSAS» في بروكسيل ببلجيكا. وهذا المسار المتنوّع أثرى تكوينه ومنحه أدوات تحليل وبناء جمالي متقدم، تجمع بين الصرامة التقنية والانفتاح الفكري. كما أكتسب من هذه التجربة الأوروبية رؤية عالمية للسينما، سمحت له بالتوفيق بين التقاليد الفنية المغربية والمعايير الجمالية الدولية، دون أن يفقد حسه المحلي أو مرجعيته الشعبية. 

وأبدع أحمد المعنوني في مجال المسرح قبل دخوله عالم السينما ، عندما ألّف وأخرج عدة مسرحيات في باريس، من أبرزها مسرحية “صدى الشباب” التي شارك في تشخيصها المخرج المغربي الجيلالي فرحاتي أواخر ستينيات القرن الماضي. كانت تجربة المسرح بالنسبة إليه مختبرًا للتعبير الفني، ومجالًا للتفكير في قضايا الإنسان المغربي والعربي من خلال لغة الأداء والصورة الحية. ومع أن المسرح منحه أدوات التعبير الأولى، فإن السينما فتحت له مجالاً أوسع للتأمل والتوثيق والابتكار. 
وانطلق أحمد المعنوني في مغامرته السينمائية كهاوي، من خلال تصوير أفلام وثائقية قصيرة بالأبيض والأسود، مثل “فونكس بالمغرب” سنة 1972 و”مهرجان طبرقة” سنة 1973، إضافة إلى”مسرح الكراكيز” (1973) و”الطفولة المهاجرة” (1974)، وكانت هذه التجارب بمثابة تمرين أول على تحويل الواقع المغربي إلى صورة سينمائية، بينما المنعطف الحاسم في مسيرته جاء في أواخر السبعينيات، حين قدّم تحفته “آليام آليام” (1978) التي تُعتبر بمثابة ميلاد السينما المغربية الحديثة، إذ تولّى المعنوني بنفسه كتابة الفيلم وتصويره، أما موسيقاه فكانت من توقيع فرقة ناس الغيوان، وشارك في إنجازه تقنيون عالميون، واختير الفيلم للمشاركة في المسابقة الرسمية لمهرجان كان السينمائي سنة 1978، وحصل على الجائزة الكبرى في مهرجان مانهايم وعلى أكثر من عشرين جائزة دولية، ليعلن من خلاله ميلاد مخرج كبير ومرحلة جديدة في تاريخ السينما المغربية. 
واصل المعنوني طريقه بثبات بعد هذا النجاح الكبير،  وقدّم فيلم “الحال” (1982)، وهو وثائقي عن فرقة ناس الغيوان وحيهم الشعبي بالدار البيضاء، وتجاوز الفيلم التوثيق الموسيقي، ليصبح وثيقة بصرية وإنسانية نادرة، تمزج بين الأغنية الشعبية والتاريخ الاجتماعي والثقافي للمدينة، وحصد الفيلم الجائزة الأولى لـ ESEC، وتم اختاره للمشاركة في مهرجانات لندن ونيويورك وكان، كما عاد إدراجه ضمن فقرة “كان كلاسيك” في مهرجان كان عام 2007، وهذا العمل جعل اسم المعنوني يرتبط بمرحلة النضج الفني المغربي، وكرّسه كأول مخرج مغربي يدخل العالمية بأعمال تستند إلى أصالة التراث الوطني. 
وعاد المعنوني سنة 2007 بفيلم “قلوب محترقة” الذي استوحى جزءًا كبيرًا منه من سيرته الذاتية، إذ يعالج الفيلم علاقة الأجيال المغربية بالذاكرة والقمع والمنفى، من خلال قصة مهندس مغربي يعود من فرنسا إلى وطنه ليواجه ماضيه الشخصي والعائلي، وأختار المعنوني أن يصوّر الفيلم بالأبيض والأسود “لقتل جمالية مدينة فاس”، كما قال في إشارة رمزية إلى ثقل الذاكرة التي يريد نبشها. ورغم جرأة الاختيار حقق الفيلم نجاحًا كبيرًا، وافتتح المهرجان الأول للفيلم المغربي في نيويورك، وحصد جوائز في مهرجانات عربية ودولية، من بينها جائزة أحسن إخراج في المهرجان الدولي للفيلم العربي بالجزائر. 
وانخرط أحمد المعنوني بقوة في التوثيق البصري لذاكرة المغرب الحديث، كونه أنتج مجموعة من الأفلام الوثائقية التي تؤرخ لشخصيات وأحداث مفصلية، من بينها: “حوارات مع إدريس الشريبي” (2007)، و”المغرب فرنسا: تاريخ مشترك” (2005–2006) بأجزائه الثلاثة “خيال الحماية”، “المقاومون”، و”التحديات الجديدة”، و”محمد الخامس” (2000)، و”الكوم المغاربة” (1993). كما عمل على سيناريو فيلم حول شخصية الباشا التهامي الكلاوي، ومن المنتظر أن يُنفّذ بشراكة مع المخرج العالمي مارتن سكورسيزي، الذي يعتبره من الأصوات السينمائية المهمة في العالم العربي. 
وشارك المعنوني في بناء المشهد السينمائي الوطني من خلال المساهمة في تأسيس جمعية السينمائيين العرب في فرنسا، وتمثيل أوروبا في الغرفة المغربية لمنتجي الأفلام. وهذا الحضور التنظيمي يعكس وعيه بأهمية تأطير الحقل السينمائي مهنياً وفكرياً، من أجل ضمان استدامته واستقلاليته. 
ويُجمع  رواد السينما على أن المعنوني يُعدّ من القلائل الذين جمعوا بين الحس الوطني والانفتاح العالمي في أعمالهم، فهو مخرج رسّخ سينما ذات نفس فكري وجمالي معقول، تعتمد على التراث الشعبي والموسيقي والثقافي المغربي، لكنها في الآن ذاته قادرة على مخاطبة المتفرج في أي مكان من العالم. من خلال “آليام آليام” و”الحال” و”قلوب محترقة” وغيرها من الأعمال الوثائقية، وأسّس المعنوني مدرسة خاصة في الإبداع السينمائي المغربي، وتميّزت بقوتها الفنية وعمق رؤيتها، وصدق علاقتها بالواقع الشعبي. 
وما يزال أحمد المعنوني وفيًا لمشروعه الفني والوطني، ويعمل على تطوير أفلام توثّق مراحل حساسة من تاريخ المغرب، وتمنح السينما بعدها التربوي والثقافي، كونه يعتبر السينما وسيلة لحماية الذاكرة الوطنية من النسيان، ومجالًا لبناء حوار حضاري بين المغرب والعالم، بينما بهذا الإرث الغني، يظل أحمد المعنوني أحد أبرز الأسماء التي شكّلت الوعي السينمائي المغربي والعربي، وأحد أعمدة الفن الذين منحوا السينما المغربية نكهتها الخاصة ومكانتها المرموقة في المشهد السينمائي الدولي. 
وعبر السيد أحمد المعنوني، وقد يغمره شعور التأثر بالتكريم الذي يمنحه إياه المهرجان، عن بالغ امتنانه لأساتذته، وللأطقم الفنية والتقنية التي ترافقه بإخلاص وصدق طوال مساره المهني، ويشكر أيضاً أفراد أسرته على دعمهم المستمر ومساندتهم غير المشروطة، وتوقف الفنان عند آفاق السينما المغربية، وثمّن الطاقات الشابة الواعدة التي تزخر بها، ودعى إلى تضافر الجهود لدعم هذه المواهب ومواكبتها نحو الإبداع والتألق. 
تشهد هذه الدورة تنظيم أربع مسابقات رسمية، تشمل الأفلام الروائية الطويلة، والأفلام الوثائقية الطويلة، والأفلام القصيرة الروائية والوثائقية، إلى جانب مسابقة أفلام مدارس ومعاهد السينما بالمغرب، إذ توزع لجان التحكيم جوائز هذه الدورة على النحو التالي: مسابقة الأفلام الروائية الطويلة (14 جائزة)، مسابقة الأفلام الوثائقية الطويلة (3 جوائز)، مسابقة الأفلام القصيرة الروائية والوثائقية (3 جوائز)، ومسابقة أفلام مدارس ومعاهد السينما بالمغرب (جائزتان). 
وتم تقديم لجان التحكيم الرسمية للدورة، ويرأس المخرج حكيم بلعباس لجنة تحكيم مسابقة الأفلام الروائية الطويلة، وتضم عضويتها الممثلة نادية كندة، والمخرجة وكاتبة السيناريو ياسمين بنكيران، والمنتجة مريم لي أبو النعوم، ومدير التصوير التونسي أمين مسعدي، والكاتب عبد القادر الشاوي، والمخرج كمال الأزرق. 
 
يرأس المخرج محمد العبودي لجنة تحكيم مسابقة الأفلام الوثائقية الطويلة، وتضم اللجنة المنتجة والمخرجة عائشة ماكي كيدي من النيجر، والمنتجة والموزعة سهام الفايضي، والمخرج والمنتج والموسيقي عدنان بركة، ومخرج الأفلام الوثائقية جواد بابيلي. 
وتتولى المخرجة حليمة الورديغي رئاسة لجنة تحكيم مسابقة الأفلام القصيرة الروائية والوثائقية، وتضم عضويتها الأستاذة الجامعية والباحثة في السينما ليلى الرحموني، والمخرج إلياس الفارس، ومدير مسرح محمد الخامس بالرباط محمد بنحساين، والمخرج عماد بنعمر. ويرأس المخرج مولاي الطيب بوحنانة لجنة تحكيم مسابقة أفلام مدارس ومعاهد السينما بالمغرب، وتضم عضويتها الأستاذة الباحثة والمنتجة بهيجة ليوبي، والمونتيرة ومهندسة الصوت سارة قدوري.. 
وتختار اللجنة المنظمة تسعة مشاريع أفلام روائية طويلة قيد التطوير من بين 36 مشروعاً مقدماً للمشاركة في مسابقة “بيتش” للدورة الخامسة، المقررة بين 22 و24 أكتوبر، وتتيح لأصحاب هذه المشاريع فرصة تقديم أعمالهم أمام لجنة تحكيم من مهنيين مغاربة وأجانب، والحصول على ملاحظات ونصائح بنّاءة لتطوير نصوصهم، وتمنح أفضل المشاريع جوائز تهدف إلى تشجيع إنجازها سينمائياً. 

عبدالرحيم الشافعي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: المحتوى محمي !!