“الليلة جئنا لا نحكي عنا، بل نحكيكم… أنتم أبطال روايتنا، منكم يحيا من غير حكاياته، دقات فؤاده، وفصول حياته… هل تنتهي الحكايات؟ هل نكتب آخر سطر في هذه الليلة؟ آخر كلمة؟ لا… ما زالت عندي قصة… وأنا عندي واحدة… وأنا عندي واحدة… الوقت ينتهي والقصص لا تنتهي.” اخترت أن أبدأ الكتابة عن «حواديت» من هذه اللحظات الأخيرة، والمونولوج الختامي الذي اختار المخرج خالد جلال أن ينهي به عرضه، فجعلته البداية حيث اللحظة التي تتعانق فيها الأصوات والقصص، في مشهد جمع بين الوداع والولادة، وكأن النهاية نفسها تفتح بابا جديدا للحكايات التي لا تنتهي. نسج المخرج خالد جلال حكاياتنا اليومية في عرض «حواديت»، مشروع تخرج الدفعة الثالثة (A) دفعة علي فايز من مركز الإبداع الفني، الذي قدم خلاله أكثر من 71 مشهدا متنوعا، جسدها 31 موهبة جديدة من أبناء مركز الإبداع الفني.. منذ اللحظة الأولى، وحين تعطي شهرزاد إشارة بدء الحكايات يدخل الجمهور إلى عالم من القصص اليومية التي تشبهه ، على مدار العرض نرى ونعيش حكاياتنا جميعا كل منا يجد نفسه في حكاية أو أكثر، حكايات عن فقدان الأب والأم، عن معاناة كبار السن مع الزهايمر، عن الوحدة التي تتسلل بهدوء إلى تفاصيل البيوت، عن مشكلات الزواج وضغوط الحياة والاكتئاب ومحاولات الانتحار، وعن جبر الخاطر، ولمّة العيلة التي نفتقدها في زحام الأيام، كل مشهد في “حواديت” يلتقط وجعا أو ومضة إنسانية، ويمر أمامنا كمرآة نرى فيها أنفسنا أو من نحب. ورغم تنوع هذه القصص، فإنها تلتقي جميعا في نقطة واحدة هي “الإنسان”، ذلك الكائن البسيط المثقل بتفاصيله الصغيرة، الباحث عن معنى في فوضى الحياة، والباحث عن حضن يعيد إليه الطمأنينة والأمل والأمان، هنا تتجلى براعة خالد جلال، الذي لا يقدم مشاهد متفرقة بل يبني من كل حكاية لبنة في جدار شعوري متماسك، حتى يصبح العرض بأكمله دفترا مفتوحا للحياة، تكتب صفحاته أمام أعيننا. يعتمد المخرج خالد جلال، في العرض على إيقاع مضبوط بإحكام، يوازن بين الكوميديا والدراما، بين الإيقاع السريع للحياة وتوقفاتها التأملية، وقدرته الفائقة على إدارة عدد كبير من الممثلين داخل مساحة محدودة من خشبة مركز الإبداع تعد درسا في التنظيم المسرحي والقيادة الفنية المنضبطة بإبداع، كما أن الانتقالات بين المشاهد جاءت بإنسيابية وسلاسة، لا تقطع معها الحالة الشعورية، بل تتجدد بفن، أما الموسيقى والأغاني هي واحدة من أجمل عناصر العرض، حيث استخدام الموسيقى والأغاني كجسر عبور بين الحكايات؛ فبين كل مشهد وآخر ينتقل الجمهور بمقطع غنائي قصير، مزج فيه “جلال” باختياراته بين الأغاني القديم والحديث، بين الطربي والشعبي بين أم كلثوم وعبد الحليم وعمرو دياب وغيرها من الاختيارات التي شكلت تنوعا سمعيا ثريا، وخلق تواصلا وجدانيا بين أجيال مختلفة من الجمهور، فأصبح الغناء جزءا من السرد، لا مجرد فاصل، وفي الديكور اعتمد على الكتاب كعنصر بصري محوري بشكل بسيط وأنيق،، وكأنه يرمز إلى كتاب الحياة ذاته بكل مافيه من قصص وحكايات تُروى، والإضاءة لعبت دورا نفسيا مؤثرا، تتغير نبرتها بتغير الإحساس من الدفء والحنين إلى البرودة والتوتر، وختام الـ”حواديت”، بمونولوج جماعي مؤثر توحد فيه الجميع، وتداخلت فيه الأصوات لتؤكد أن الحكايات لا تنتهي، بل تتجدد مع كل قلب ينبض وكل تجربة تعاش وتحكى. «حواديت» خالد جلال ليس مجرد مشروع تخرج، بل تجربة مسرحية ناضجة مكتملة الملامح، مرة أخرى، يثبت خالد جلال أنه لا يصنع عروضا فقط، بل يصنع حكايات تروى وتبقى.