شادي العدل يكتب لـ«الحرية»: مسرحية الأقنعة.. عندما فضح الرئيس أتباعه!

في قاعة البرلمان المهيبة، حيث تُعلّق صور الآباء المؤسسين، وتُنسج خيوط القوانين التي تحكم مصير الملايين، شهدنا مؤخرًا مشهدًا من أعظم مشاهد التناقض الصارخ, مشهد يكشف حقيقة ما يُسمى بالأحزاب والسياسيين موالاة ومعارضة، وينزع الأقنعة عن وجوه كان قد التبس أمرها على كثير من الناس، إنها قصة قانون الإجراءات الجنائية، ذلك القانون الذي هزّ ضمير من تبقى لديه ذرة من إيمان بالعدالة.
المشهد الأول: الهُروَلَةُ والتأييد
عندما وُضع قانون الإجراءات الجنائية الجديد على طاولة البرلمان، سادت أجواء الطوارئ، حكومة تدفع بقوة، وخطاب أمني متستر ومتشدد يروّج للقانون تحت شعار “تخفيف مدة الحبس الاحتياطي” و”تسريع إجراءات التقاضي” ثم جاءت لحظة الحقيقة، لحظة التصويت.
واحدًا تلو الآخر، وقف “النواب” ليتحدثوا، منظرٌ يُذكرنا بقطع الدومينو وهي تسقط، خطب منمقة عن “ضرورة حماية الأمن القومي”، و”تعزيز أداء الجهاز القضائي”، لم يكن هناك وقت كافٍ للدراسة، لم تكن هناك جلسات حوار حقيقية مع خبراء القانون والمجتمع المدني، كانت الآلة تدور بسرعة، والجميع يهرول ليقول “نعم“.
في تلك اللحظة، نزع كل من صوّت بالموافقة عن نفسه صفة المعارضة، إن كانت لديه أصلاً، انكشفوا كأعمدة لهذا المسار السلطوي الذي يسحق ما تبقى من عدالة، أي نائب بارك قانونًا يطيح بضمانات المحاكمة العادلة، ويوسع سلطات الملاحقة دون ضوابط كافية، هو شريك في اغتيال العدالة، لا أكثر، لقد قدموا للسلطة التنفيذية أداة قمعية مغلّفة بقانون، وكأنهم يقولون: “ها نحن نسهل عليكم الطريق“.
المشهد الثاني: الصدمة والتراجع
لكن المفاجأة كانت عندما علا صوتٌ واحد مختلف، صوت لم يكونوا يتوقعونه، صوت الرئيس نفسه، لقد أعاد القانون إلى البرلمان لدراسته مرة أخرى، معربًا عن تحفظاته على بعض مواده، كانت صفعة موجهة لكل من هُرول لتأييد القانون.
وفي لحظة، انقلبت الموازين، من كانوا يتسابقون لتأييد القانون، وجدوا أنفسهم في موقف محرج، وبدأ التبرير والتراجع، “لم تكن هناك قراءة كافية”، “بعض المواد تحتاج إلى مراجعة”، “نحن مع العدالة والضمانات”، نفس الأصوات التي كانت بالأمس تهدد وتتحدث عن “ظروف استثنائية” تستدعي “إجراءات استثنائية”، أصبحت اليوم تتحدث بلغة الحقوق والضمانات!
هنا يتجلى السؤال المصيري، ماذا ستفعلون الآن أيها “النواب”؟ هل ستتراجعون صاغرين بعد أن فضحكم رئيس الدولة نفسه؟ هل ستتعلّمون معنى الاستقلال السياسي، أم أن ولاءكم الأعمى سيدفعكم إلى انتظار إشارة جديدة لتقرروا متى تعارضون ومتى تصفقون؟
المشهد الثالث: كشف الحساب
هذا الموقف يكشف عدة حقائق مرة، فقد برهنت هذه الواقعة أن كثيرًا ممن في البرلمان ليس لهم قرار مستقل، هم مجرد أتباع ينتظرون الإشارة، مواقفهم ليست نابعة من قناعة أو مبدأ، بل من قراءة اتجاه الريح، فعندما كانت الريح تأمر بالموافقة، هبّوا مسرعين، وعندما تغيرت اتجاه الريح، بدأوا في التلويح، فالنائب الحقيقي يجب أن يكون ضمير الأمة، دوره أن يحاسب السلطة التنفيذية، لا أن يكون أداة طيعة في يدها، فعندما يتحول البرلمان إلى مجرد ختم مطاطي، فإنه يفقد شرعيته ويكرس دولة القهر بدل دولة القانون.
في النهاية، فإن رفض الرئيس للتوقيع – لأي سبب كان – أنقذ البلاد من قانون جائر، وأظهر أن صوت العقل والعدالة يمكن أن يعلو، لكن هذا لا يبرئ أولئك الذين ساهموا في وصول القانون إلى هذه المرحلة.
وها هو التاريخ يسجل هذه اللحظة بتفاصيلها، يسجل أسماء من تخلى عن ضميره وانحنى للإرادة السلطوية، والعار يلاحق كل من تاجر بمبادئه وبدوره النيابي الحقيقي.
والناس ترى.. ترى هذا المسرح كله، ترى من وقف مع الحق منذ البداية، ومن انقلب مع التيار، لقد انكشفت الأقنعة، ولم يعد هناك مكان للاختباء وراء الشعارات الجوفاء.
والسؤال الآن هل ستكون هذه الحادثة درسًا للبعض لاستعادة جزء من كرامتهم واستقلاليتهم؟ أم أن الإغراء سيبقى أقوى، وسيستمرون في دورهم ككومبارس في مسرحية كبيرة، عنوانها “ديمقراطية بلا ديمقراطيين، وبرلمان بلا نواب حقيقيين”؟
الجواب عندهم.. ولكن الأكيد أن الشعب لم يعد يصدق أقنعتهم، لقد سقطت الأقنعة، وبقيت الحقيقة عارية، تُقرع بها جدران البرلمان كجرس إنذار يذكر الجميع بأن دور النائب أمانة، وخيانتها ليست خيانة للشعب فقط، بل هي خيانة للعدالة نفسها.