دراما وفنون

ضياع الدراما الكولومبية بين العالمية والمحلية

The Guest مزيج من الميلودراما والإثارة النفسية مع فائض في عدد الحلقات

ملخص

يريد المسلسل أن يكون محلياً وعالمياً في آن واحد، أن يخاطب جمهور بوغوتا وجمهور برلين معاً، لكن في هذه المحاولة بالذات، تظهر الهوة بين ما تريده الحكاية وما تفرضه المنصة، بين طاقة الدراما المحلية وإيقاع السوق العالمية.

أتقنت كولومبيا منذ زمن بعيد فن السرد عبر الدراما التلفزيونية، فعلى مدى عقود، صدرت البلاد إلى العالم بعضاً من أشهر الأعمال الدرامية في أميركا اللاتينية، التي حققت انتشاراً واسعاً على الساحة الدولية.

من الظاهرة العالمية Yo soy Betty, la fea (1999) التي أعيد إنتاجها بلغات عدة، إلى ملاحم الجريمة مثل El Patrón del Mal (عن بابلو إسكوبار)، مروراً بالدراما الرومانسية المشوقة La Reina del Flow، ظل المزيج الكولومبي من العاطفة المكثفة والانعطافات الحادة والشخصيات الحية وصفة ناجحة لا تخطئ.

في الأعوام الأخيرة بدأت الدراما الكولومبية تتجاوز قالب المسلسلات العاطفية التقليدية، متجهة نحو فضاءات أكثر قتامة وتعقيداً من خلال أعمال تنتمي إلى فئة التشويق النفسي، مما جعلها أكثر قدرة على جذب الجمهور العالمي.

أدت “نتفليكس” دوراً محورياً في هذه النقلة، عبر منح هذه الأعمال انتشاراً دولياً واسعاً وإنتاجاً بصرياً أكثر جودة. مسلسلات مثل Fake Profile (سبق أن كتبنا مراجعة عنه) وDelirium ضمت قصصاً آسرة تدور حول الخيانة والهوس والتلاعب الأخلاقي، في توليفة تجمع بين البنية التقليدية للمسلسلات اللاتينية والإيقاع السريع الذي يميز دراما التشويق الحديثة.

هذه هي لغة التيلينوفيلا (مصطلح لاتيني يعني “رواية تلفزيونية”) التي شكلت لعقود البنية السردية لصناعة الدراما في كولومبيا، وجعلت منها جزءاً حيوياً من الثقافة الشعبية في أميركا اللاتينية.

ومن هذه التربة السردية الخصبة خرج مسلسل “الضيفة ” (La Huésped)، الذي تبثه “نتفلكس”، حاملاً وعداً بالتجديد: مزيج من الميلودراما والإثارة النفسية، من السرد الصاخب والتهديد الصامت.

يريد المسلسل أن يكون محلياً وعالمياً في آن واحد، أن يخاطب جمهور بوغوتا وجمهور برلين معاً، لكن في هذه المحاولة بالذات، تظهر الهوة بين ما تريده الحكاية وما تفرضه المنصة، بين طاقة الدراما المحلية وإيقاع السوق العالمية.

توتر

لا يضيع المسلسل وقتاً في رسم ملامح عالمه. في الحلقة الأولى يعثر على معالج نفسي معروف في بوغوتا ميتاً، وقد ترك عبارة اعتذار غامضة على زجاج نافذته. موته يرتبط مباشرة بسيلفيا (لورارا لوندويو)، عازفة التشيلو اللامعة، وزوجها لورينزو (جيسون داي)، المرشح الطموح لمنصب المدعي العام. زواجهما يمر بأزمة عاطفية وجسدية، قبل أن تظهر فجأة سونيا (كارمن فيلالوبوس)، وهي شخصية من ماضي سيلفيا القريب.

سونيا ليست ضيفة عادية، بعدما تعرفت إلى سيلفيا في منتجع وشاركتها لحظة حميمية، تظهر على عتبة منزلها الريفي مدعية أنها تهرب من زواج عنيف، ما يبدأ كتصرف إنساني بسيط سرعان ما يتحول حرباً نفسية، تتسلل سونيا إلى تفاصيل الحياة اليومية للعائلة، تكشف هشاشاتهم، وتنسج خيوط تفكك بطيء لثقتهم المتداعية.

في الوقت نفسه تجد الابنة المراهقة إيسا (كامي زيا) نفسها عالقة في تحد خطر على الإنترنت، ليتشابك مصيرها مع مخططات سونيا، ويتحول البيت إلى متاهة من الأسرار والمكايد.

مزيج

يمزج المسلسل بين عناصر مألوفة: زواج ينهار، وغريب مغوٍ، وطموح سياسي، وتمرد مراهق. دوافع سونيا غامضة في البداية، لكنها ليست ضحية فحسب، بل صاحبة خطة دقيقة.

هيكل العمل لا يخفي أصوله اللاتينية: حلقات طويلة، وانفعالات حادة، ونهايات مشوقة لكل فصل، لكنه في الوقت نفسه يرتدي قناع الإثارة النفسية من خلال تصوير سينمائي أنيق، وموسيقى مؤثرة، وأداء تمثيلي مصقول.

إلا أن قرار تمديد الحكاية على مدى 20 حلقة — أي ما يقارب 20 ساعة — بدا سلاحاً ذا حدين: طموحاً من جهة، ومنهكاً من جهة أخرى، ما كان يمكن أن يكون سلسلة قصيرة مكثفة، يتحول تدريجاً إلى مسار متكرر يمكن التنبؤ به.

في الحلقات الأولى يشد التفاعل بين سيلفيا ولورينزو وسونيا المشاهد بقوة: سونيا تستخدم الحميمية والأسرار والرغبة كسلاح جراحي، تعرف نقاط ضعف لورينزو ونزواته الجنسية، وتدرك هشاشة سيلفيا وتستغل كليهما لبسط نفوذها.

لكن مع تقدم الحلقات تصبح الانعطافات السردية متوقعة، وتتضخم الحبكة بقصص جانبية — من حادثة إيسا إلى الفساد السياسي و”شريك سونيا المتخيل” — مما يخفف من قوة السرد الأساسية.

ضياع

إذا كانت الدراما الكولومبية قد برعت في شيء فهو بناء التوتر من خلال العاطفة القصوى. يقدم The Guest كثيراً من ذلك: خيانة، وهوس، وابتزاز، وذنب، وتلاعب، لكنه لا يغوص فعلاً في العمق النفسي الذي يعد به، فبالنسبة إلى مسلسل إثارة تبدو الرهانات هادئة أكثر من اللازم، وبالنسبة إلى عمل ميلودرامي تبدو العواطف أقل من المتوقع.

قصة سونيا — هوس قديم بلورينزو ورفيق وهمي يدعى ليباردو — كانت يمكن أن تكون محوراً جريئاً، لكنها تظهر متأخرة وبأثر محدود، أما أزمة العائلة من تعاطي إيسا المخدرات إلى سقوط لورينزو الأخلاقي، فتسير وفق مسارات مألوفة، المسلسل مشدود في لحظات، لكنه نادراً ما يبلغ ذروة التشويق.

في المشهد الختامي تخطف سونيا سيلفيا وإيسا، تشعل النار في المنزل، وتواجه لورينزو في صدام عنيف. المشهد درامي، بصرياً قوي، ومتقن الأداء، لكنه يبدو أيضاً تتويجاً لقصة طالت أكثر مما ينبغي.

يكمن تألق المسلسل الحقيقي في التمثيل، كارمن فيلالوبوس تؤدي شخصية سونيا ببراعة تجمع بين الإغواء والرعب، من دون الوقوع في فخ الكاريكاتير، لورا لوندويو تجسد هشاشة سيلفيا وقوتها الداخلية في آن، فيما يقدم جيسون داي لورينزو كصورة مقنعة لرجل يجمع بين الجاذبية وضعف الإرادة، أما كامي زيا فتمنح شخصية المراهقة إيسا عمقاً لافتاً، هذه الكيمياء الجماعية تحمل العمل حتى في لحظاته الأضعف كتابة.

من الناحية التقنية، The Guest عمل مصقول بصرياً، موسيقاه مشحونة، وموقعه الكولومبي يمنحه ملمحاً ثقافياً خاصاً يميزه عن أعمال الإثارة المعلبة، تضيف الحبكة السياسية بعداً إضافياً يعمق الصراع الشخصي ويضعه ضمن إطار اجتماعي أوسع.

لكن الطول الزائد يضعف الحدة، ويكرر اللحظات نفسها أكثر من مرة، مما يخفف من وقع المفاجآت، بعض الخطوط تترك معلقة، وأخرى تتكرر على نحو رتيب، هكذا يتحول العمل من مسلسل إثارة متوهج إلى حكاية فاترة في مراحلها الأخيرة.

للمقارنة، فإن أعمالاً مثل Fake Profile احتضنت جنونها الميلودرامي ولم تطل، مما جعلها أكثر جاذبية، أما The Guest فوقع في التردد، فخرج أقل بريقاً مما كان يمكن أن يكون.

“الضيفة” ليس عملاً سيئاً، بل مرحلة انتقالية في مسار الدراما الكولومبية، يعكس طموح صناعة تبحث عن موطئ قدم في السوق العالمية من دون أن تتخلى عن هويتها العاطفية، لكنه يذكر أيضاً بأن الإطالة قد تحرق أفضل القصص.

لمن نشأ على التيلينوفيلا سيبدو المسلسل مألوفاً: عاصفاً، مثيراً، متوهجاً، أما من يبحث عن إثارة نفسية مشدودة ومحكمة فسيجد نفسه أمام رحلة طويلة… تنفجر في نهايتها النار بعدما يكون البيت قد امتلأ بالماء.

محمد غندور

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: المحتوى محمي !!