أخبار مسرحية

عاصفة نقد تواجه مدرسة موليير للنساء

سيد المسرح الهزلي الفرنسي ينقض على مناوئيه بالطريقة الأفضل التي يحسنها فحولها إلى مسرحية من فصل واحد

إبراهيم العريس

 

ملخص

من المؤكد أن كل تلك الحوارات والمواقف التي نقلها موليير إلى خشبة مسرحه، تعكس تماماً ليس فقط الأساليب النقدية التي كانت سائدة في زمن موليير، بل توجهات النقد في كل زمان ومكان.

هناك في التاريخ المهني المعروف لمسرحي فرنسا الهزلي الكبير في زمن لويس الـ14، جان باتيست بوكلان، الذي كان يوقع مسرحياته بالاسم الذي عرف به في العالم أجمع على مدى التاريخ (موليير)، مسرحيتان تحملان العنوان نفسه تقريباً هما “مدرسة النساء” و”نقد مدرسة النساء”.

وحتى لو أن المسرحية الثانية تحمل في عنوانها موضوعها من دون لف أو دوران وتنبئ عن أنها لا يمكن أن تكون دراسة علمية بالنظر إلى أن مؤلفها لم تكن تلك الكتابة التحليلية من شيمه، فإنها لم تكن سوى مرافعة كتبها مؤلفها كمسرحية وقدمها على الخشبة بالفعل، بعد حين من تقديمه تلك المسرحية الأولى التي تحمل جزءاً من العنوان نفسه لتكون الأولى بين أعماله الكبرى التي ستتضمن “البخيل” و”طرطوف” و”البورجازي النبيل” وغيرها من أعمال لا تزال تعجب الجمهور العريض وتترجم إلى لغات العالم وتقتبس، وتحضر في التاريخ المسرحي العالمي بكل قوة، منذ أربعة قرون وأكثر.

والحقيقة أن في إمكاننا أن نفترض أن موليير كان من الإعجاب بمسرحيته “مدرسة النساء” إلى درجة أنه وجد نفسه يتبعها بتلك المسرحية القصيرة الأخرى التي، وكما يوحي عنوانها، لم تكن سوى رد على الذين وجهوا إلى “مدرسة النساء” سهام نقد يبدو أنه كان لاذعاً مما استدعى تصرفاً سريعاً من صاحب المسرحية هو تلك المسرحية التي قال غايته الواضحة منها بدءاً من عنوانها. وكانت غايته الرد المباشر على الأصوات التي علت خلال النصف الأول من عام 1663 لتندد بالمسرحية الأصلية تنديداً صاخباً جعل ذلك العام، في الحياة الفنية الباريسية، عام “مدرسة النساء”. مما يعني أن معركة كبيرة وصاخبة، قد اندلعت ستخفت لاحقاً وربما تحديداً بفضل مسرحية الفصل الواحد التالية، التي كانت نتيجة فكرة موليير الطريفة التي جعلته يعرض المسألة على الجمهور بذلك الشكل المبتكر.

موليير شاعراً مدافعاً في مسرحية “نقد مدرسة النساء” إذاً، عدة شخصيات تتجابه عبر حوارات يثير معظمها الضحك والتهكم، تدور في جلسة لدى سيدة الصالونات الحاذقة أورانيا التي تتولى وابنة عمها اليز، وسط مجموعة من نساء يشاركن في الصالون، مهمة تبدو مقدسة بالنسبة إليهن تقوم في تحويل المسرحية إلى مادة للسجالات الصالونية.

وبنفس العبارات تقريباً التي استعارها موليير من المقالات والتصريحات التي راجت من حول “مدرسة النساء”، بينما يتولى الدفاع عن المسرحية بمنطق عقلاني سليم ينافح عن حرية الإبداع ودوره في المجتمع، شاعر يدعى دورانتي يتبنى موقف المسرحية التي تتم معالجتها بقوة، تجعلنا على يقين من أنه ينطق هنا باسم موليير نفسه، في مواجهة مركيز من بين الحضور، من الواضح أنه لم يشاهد المسرحية ولا ينوي مشاهدتها كما يخبرنا. هو الذي تجعل عنجهيته صاحبة الصالون أورانيا تتحول تدريجاً للدفاع عن المسرحية وقد طرحت على المركيز سؤالاً غاضباً ومتهكماً فحواه: كيف تجرؤ يا صديقنا على أن تهاجم عملاً فنياً لم ولن تشاهده؟ فيكون جوابه أن في مقدوره “تحليل مثل هذه المسرحية، بل تفكيكها من دون أن يتعب نفسه بمشاهدتها”.

ومن المؤكد أن كل تلك الحوارات والمواقف التي نقلها موليير إلى خشبة مسرحه، تعكس تماماً ليس فقط الأساليب النقدية التي كانت سائدة في زمن موليير، بل توجهات النقد في كل زمان ومكان، حيث عرف الكاتب المسرحي الكبير كيف يجعل من مسرحيته “النقدية في المجال الأدبي” نوعاً من تصفية حساب مع الذين يقفون ضد المسرحية الأولى التي تحمل نقداً كبيراً و”صائباً”، كما يقول الشاعر دوراتي (موليير نفسه طبعاً) مندداً بذلك “النقد الأرعن”.

انقسام اجتماعي واقعي إذاً ما لدينا على خشبة المسرح هنا مجموعة من سادة المجتمع المثقفين أو المدعي الثقافة كما سيتبين لنا في نهاية الأمر، الذين تدور بينهم سجالات من حول راهنية فنية تثير توقهم للكلام، وتكشف في طريقها حال النقد في تلك الأوساط. والحال أن الصخب السجالي يتجلى أكثر ما يتجلى من خلال سيدتين بين الحضور تؤيدان المركيز في مواقفه، ولكن هنا من منطلق مرتبط بنزعة نسوية، لا فنية محددة، فاليسا وابنة عمها، وبعد ابتعاد أورانيا عن تبني موقفهما، تعدان المسرحية مسيئة للنساء ساخرة منهن، تماماً كما أن المركيز يعد أن المسرحية لا تلتزم بالمعايير الأخلاقية أو حتى الفنية المتعارف عليها، فيرد عليه دورانتي هنا مؤكداً أن تلك المعايير والقواعد بالتالي ليست سوى ملاحظات تبناها نوع من حس سليم لرغبته في أن يجرد هذا النوع من الإبداع من أية لذة قد يتسم بها. وهو حس سليم و”صوابية اجتماعية” ينتميان إلى الحياة اليومية “التي ترى أن في مقدورها أن تسوي أمورها من دون أن تضطر للجوء إلى أرسطو أو إلى هوراس” ومن ثم يستنتج دورانتي هنا أن القاعدة الذهبية في ذلك كله هي إثارة إعجاب عام يبدأ من إعجاب القصر بالعمل الفني ليصل إلى إثارة إعجاب الجمهور البسيط سواء بسواء و”للوصول إلى تحقيق ذلك، يتعين على المبدع أن يرسم موضوعه وقد جعل واقعية الحياة اليومية موديله الأثير”.

بيد أن هذا لا يكفي، يقول دوراتي، بالنظر إلى أن على المبدع أن يعرف كيف يسلي جمهوره المتنوع في الوقت نفسه. وأن يعرف كيف يجعل عمله نوعاً من المزاح” و”يا لها من مهمة غريبة تلك التي تقوم في إضحاك الناس المحترمين!” حيث يستطرد دورانتي هنا رافضاً أن يشمل اهتمام المبدع “أولئك العقلاء الذين لا يتمتعون بلذة المزاح وحس الفكاهة”.

وجهات نظر في مرآة السجال يقيناً أن تلك المسرحية القصيرة لم تكن بالنسبة إلى موليير عملاً يتوخى منه أن يكون إبداعاً خالداً بل كانت عملاً ظرفياً حدد له المؤلف وظيفة عابرة حتى وإن كان قد حرص على أن يكون صادقاً، بل حتى منصفاً، في عرضه وجهات النظر المختلفة بما فيها تلك التي تعارض وجهة نظره تماماً.

وكان من الواضح أن الكاتب من خلال حواراته والمواقف التي استعرضها، إنما كان يحاول أن يرسم صورة، طريفة على أية حال، لحال النقد والتفاعل مع صنوف الإبداع في زمنه. ولقد وفق في هذا المسعى إلى حد أن مسرحية “نقد مدرسة النساء” ومن دون أن تعد من قبل الجمهور العريض، عملاً مولييرياً كبيراً، أدت إلى الإحساس بأن ثمة في الحياة الفنية خلال تلك الأعوام معركة كبرى هي “معركة مدرسة النساء” معركة عرف موليير كيف يشرح لنا من خلالها موقفه الخاص، في وقت عرض فيه وبكل نزاهة مواقف خصومه. وهو لئن بدا ساخراً من أولئك الخصوم، لم يكن في بعض اللحظات أقل سخرية من دورانتي الذي جعله ناطقاً باسمه في عمل فني أتى فريداً من نوعه في تلك الأزمان المبكرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: المحتوى محمي !!