غياب السينما الأمازيغية يشعل نقاشا حول برمجة المهرجانات المغربية
الغياب يساهم في تهميش مكون أساسي من الهوية، ويكشف استمرار إقصاء جزئي للإبداع الأمازيغي في المؤسسات الفنية الرسمية.

تشكل المهرجانات السينمائية المغربية وعلى رأسها المهرجان الوطني للفيلم بطنجة مناسبة للاحتفاء بالإنتاج السينمائي المغربي وتقييم تطوره الفني والجمالي، حينما تجمع دوراته نخبة من المخرجين والمنتجين والنقاد من مختلف مناطق المغرب، وتعرض فيه أعمال تمثل جزءًا من المشهد الثقافي الوطني.
وأثارت الدورة الخامسة والعشرون من المهرجان التي اختتمت منذ أيام قليلة نقاشا واسعا بعد غياب الأفلام الناطقة بالأمازيغية، لتعيد الاهتمام بمسألة التعدد الثقافي واللغوي داخل السينما المغربية ومدى حضور الموروث الأمازيغي في هذا الفضاء الإبداعي.
ويُظهر غياب الإنتاج الأمازيغي خللا في التوازن الثقافي الذي يفترض أن يميز المهرجان المتخصص في السينما المغربية. ويساهم هذا الغياب في تهميش مكون أساسي من الهوية، ويكشف استمرار إقصاء جزئي للإبداع الأمازيغي في المؤسسات الفنية الرسمية، إذ يبدع العديد من المخرجين الأمازيغ في مناطق سوس والأطلس والريف، غير أن أعمالهم تبقى خارج دائرة الاعتراف والاهتمام، رغم قدرتها على إثراء المشهد السينمائي برؤية مختلفة تنبع من عمق المجتمع المغربي.
ويتميز المغرب بتعدد لغاته ولهجاته وثقافاته التي تشكل نسيجا غنيا ومتنوعا يبرز في الحياة اليومية للمغاربة من خلال استعمال العربية والأمازيغية والدارجة والفرنسية والإنجليزية. وتتجاهل السينما المغربية هذا التنوع في الكثير من الأحيان، فتختار لغات بعيدة عن الواقع الاجتماعي، وتُقصي الأمازيغية رغم مكانتها الدستورية ورمزيتها التاريخية.
وتتجه بعض الإنتاجات المغربية نحو تصوير الأقاليم الجنوبية كمجال فني وسينمائي يحمل رمزية خاصة، حينما تبين هذه الأعمال رغبة في إبراز الجغرافيا المتنوعة للبلاد والتعريف بالبعد الإنساني لسكان الصحراء، بينما يساهم هذا الاهتمام في خلق وعي وطني بأهمية تلك المناطق، غير أنه يبرز أيضا تفاوتا في تمثيل باقي المكونات الثقافية، إذ تُهمَّش المناطق الأمازيغية التي تمتلك تراثا سينمائيا ولغويا كبيرا يحتاج إلى دعم ومواكبة.
المرحلة تتطلب رؤية شاملة لتطوير السينما الأمازيغية عبر تشجيع الإنتاج، وتوفير تكوين متخصص في كتابة السيناريو والإخراج
وتتناول بعض الأفلام اللغة الأمازيغية في سياقات سطحية تُختزل في الزي أو الموسيقى أو الطبيعة الجبلية، ويكتفي عدد من المخرجين بتوظيف الأمازيغية كعنصر جمالي دون أن يمنحوها عمقا دراميا أو فكريا، بينما تحتاج السينما الأمازيغية إلى أعمال تعبر عن قضايا المجتمع الأمازيغي، عن لغته ونضاله اليومي، عن ذاكرته الجماعية، وعن نظرته للعالم، ويتحقق ذلك من خلال كتابة سيناريوهات نابعة من الواقع الأمازيغي ومؤطرة بفكر سينمائي ناضج.
وتتجه العديد من الأفلام المغربية نحو استعمال الفرنسية أو الإنجليزية في الحوار والعناوين والمادة الإشهارية، حينما يسعى بعض المخرجين إلى مخاطبة المهرجانات الدولية والجمهور الخارجي، غير أن هذا الخيار يُضعف التواصل مع الجمهور المغربي. لذلك تنحسر الدارجة والأمازيغية أمام اللغات الأجنبية، ويتحول الخطاب السينمائي إلى نص معزول عن واقع الناس، بينما يحتاج المشهد السينمائي إلى لغة قريبة من المتفرج، تنبع من لسانه وثقافته اليومية.
ويكشف هذا الغياب ضعف السياسات العمومية في دعم التنوع اللغوي والفني، إذ لا تتوفر برامج كافية لتشجيع الإنتاج السينمائي بالأمازيغية أو لتكوين المبدعين في هذا المجال، كما تواجه المشاريع الأمازيغية صعوبات في التمويل والتوزيع والعرض، وهذا في حد ذاته يحد من انتشارها وتأثيرها. ويؤدي غياب الدعم إلى تعطيل مسار فني قادر على تقديم رؤية جديدة للسينما المغربية، رؤية تُبرز الغنى الثقافي عوض اختزاله في لون واحد.
وتملك إدارة المهرجان الوطني للفيلم مسؤولية كبيرة في ضمان تمثيل جميع مكونات الهوية المغربية، إذ يحتاج المهرجان إلى برمجة توازن بين مختلف اللغات والثقافات والمناطق، حتى يعبّر عن الصورة الحقيقية للمجتمع، كما يُنتظر من القائمين عليه مستقبلا أن يمنحوا الأفلام الأمازيغية مكانتها المستحقة داخل المسابقات الرسمية، وأن يفتحوا نقاشات نقدية حول التنوع الثقافي في السينما، باعتبارها مرآة للبلاد لا منصة لتيار واحد.
بعض الأفلام تتناول اللغة الأمازيغية في سياقات سطحية تُختزل في الزي أو الموسيقى أو الطبيعة الجبلية
وتتطلب المرحلة رؤية شاملة لتطوير السينما الأمازيغية عبر تشجيع الإنتاج، وتوفير تكوين متخصص في كتابة السيناريو والإخراج باللغة الأمازيغية، إذ يحتاج القطاع إلى شبكات توزيع قوية ومهرجانات جهوية تدعم هذه الأفلام وتمنحها فضاءات عرض مستمرة. يشكل الاعتراف بالمبدعين الأمازيغ خطوة ضرورية نحو صناعة سينمائية وطنية شاملة تستند إلى العدالة الثقافية والمواطنة الفنية.
وتُعدّ السينما الذاكرة البصرية للأمة، ولا يمكن أن تكتمل إذا اقتصرت على لغة واحدة أو رؤية محدودة، في حين يفتح حضور الأمازيغية المجال أمام تجديد الخطاب السينمائي وإثرائه بقيم الأصالة والاختلاف والإبداع، ويتحقق ازدهار السينما المغربية عندما تُسمَع فيها جميع اللغات، وتُروى فيها كل الحكايات، ويُحتفى فيها بكل الهويات دون تمييز.
وتنتقد فعاليات مهنية وثقافية طريقة تدبير المركز السينمائي المغربي لاختيار الأفلام والمبدعين، معتبرة أن معايير البرمجة يبدو أنها تخضع لمنطق انتقائي غير منصف يضع السينما الأمازيغية خارج المشهد رغم حاضرها المتنامي وإنتاجها المتنامي كما ونوعا.
وعبّرت رابطة المنتجين المغاربة، في بلاغ رسمي، عن استيائها مما وصفته بالإقصاء الممنهج الذي تتعرض له السينما الأمازيغية، مؤكدة أنها راسلت إدارة المركز السينمائي المغربي في وقت سابق لتنبيهها إلى هذا التهميش، لكنها لم تتلقَّ أي جواب، وهذا يكشف حسب تعبيرها عن تجاهل مؤسسي غير مبرر.
وتعتبر الرابطة أن هذا الإقصاء يمس بمبدأ المساواة الثقافية الذي نص عليه الدستور، ويتعارض مع التوجيهات الملكية الداعية إلى صون التنوع اللغوي والثقافي للمغرب، كما يؤدي إلى اختلال بنيوي داخل أهم تظاهرة سينمائية وطنية يفترض أن تمثل جميع مكونات البلاد دون استثناء أو تمييز.
وتحمّل هذه الهيئة المهنية إدارة المركز السينمائي المغربي مسؤولية استمرار هذا الوضع غير السليم، مشيرة إلى أن تهميش السينما الأمازيغية يقوّض مشروع العدالة الثقافية الذي يتطلع إليه المغاربة بمختلف انتماءاتهم.
وتؤكد الرابطة أن أي مهرجان وطني لا يمنح حضورا فعليا للأمازيغية في برمجته وأطره التنظيمية والإعلامية لا يمكن أن يدّعي صفة الوطني، لأن الوطنية ليست شعارا يرفع، وإنما مرآة لتمثيلية متوازنة تكشف تعدد هوية المجتمع المغربي.
وختمت بلهجة حازمة أن السينما الأمازيغية هي قضية فئوية ومطلب لغوي ضيق، وركيزة أصيلة من ركائز الهوية المغربية الجماعية وضمانة لبناء مشهد سينمائي يعبّر عن هوية دولة تُفاخِر بتنوعها ولا تتنكر له، وتدعو الجهات الرسمية إلى تحمّل مسؤولياتها قبل أن يفقد المهرجان الوطني بوصلته الثقافية وينجرف نحو نمطية إقصائية خطيرة.
عبدالرحيم الشافعي – صحيفة العرب



