أخبار مسرحية

فائق حميصي: لا يجوز حصر الفنان في قوالب جاهزة

الممثل والمخرج الرائد انطلق من الساحة الطرابلسية وشارك في أهم المسرحيات والمسلسلات ورسخ فن الإيماء

ملخص

شهدت الدورة الـ12 من مهرجان طرابلس الدولي للأفلام تكريماً للفنان فائق حميصي، عن مسيرة فنية طويلة بدأها قبل قرابة سبعة عقود من الزمن على يد أبرز الفنانين الطرابلسيين، قبل أن يتحول إلى أبرز فناني الأداء الإيمائي، وصولاً إلى مشاركاته المهمة في أبرز المسرحيات ولا سيما مع عاصي ومنصور وزياد الرحباني.

ما زالت “مخيلة” الممثل والمخرج فائق حميصي أسيرة زواريب الزاهرية، أحد شوارع طرابلس العريقة، فهناك كانت بداية مسيرة فنية عمرها سبعة عقود من التحديات والتجارب الغنية بالدروس. في تلك الزواريب اختبر التمثيل أمام الكاميرا للمرة الأولى، عندما وقف مع أقرانه الأطفال أمام عدسة الفنان نزار ميقاتي. وهناك اكتشف براعة عبدالله الحسيني “أول معلم لفنون الأداء والسينما في لبنان”، واختبر لذة التمثيل الإيمائي مع “أبو سليم” صلاح تيزاني، الشخصية الكوميدية المحببة لدى المشاهد اللبناني والعربي المشرقي، ولاقى في فريق الكشاف دفعاً نحو دراسة التمثيل مع “أسعد” أو الممثل عبدالله حمصي، رائد الكوميديا الشعبية بالعامية المحكية في لبنان. وشكلت تلك التجارب مقدمة لدراسة أكاديمية رصينة، وإطلالة على المسرح المتعدد والملتزم والمتمرد، ومنه المسرح الرحباني الذي أدى فيه أدواراً عدة، عطفاً على مسرح زياد الرحباني.

 لا ينسى حميصي رفاق الدرب، فهم “أصحاب فضل عليه”، و”شركاء في حركة فنية عظيمة شهدتها طرابلس، وعاشها لبنان قبل الحرب الأهلية وخلالها”. واليوم، يقف حميصي مجدداً على مسرح التكريم في عاصمة شمال لبنان حيث انعقدت الدورة الـ12 من مهرجان طرابلس السينمائي الدولي للأفلام، فيقرأ سيرورة فنية لم يكتب لها التمام بعد، ويكشف لـ”اندبندنت عربية” عن أجزاء سقطت أو أُسقطت من سردية فنية عمادها أن “طرابلس كانت محطة أساس وشهادة اعتراف بموهبة كل فنان لبناني وعربي”.

طرابلس عاصمة دائمة للثقافة

 

ما إن تطرح السؤال على فائق حميصي حول مكانة التكريم الطرابلسي في قلبه، حتى يبدأ بسرد تاريخ فني و”عصر ذهبي” عاشته طرابلس. ففي كلامه تضيع الفروق بين الأنا والمدينة التي تسكنه وينتمي إليها، وإن فرضت الظروف الابتعاد موقتاً منها. ويؤكد: “يكتسب مهرجان طرابلس للأفلام قيمته من قيمة المدينة التي تحتضنه، فهي عاصمة دائمة للثقافة العربية، ولا تحتاج إلى قرار من جهة رسمية لإعلانها كذلك”، مشيراً إلى “تجاهل الباحثين التاريخيين الحقيقة وطمس فكرة أن طرابلس هي أول مدينة في الشرق الأوسط ضمت مسرحاً للأوبرا، وكان فيها أول معهد للتمثيل في لبنان. كانت المدينة محطة أساس لمنح جواز المرور والاعتراف بمكانة أية فرقة مسرحية وغنائية مصرية أو سورية”، حين “كان هناك خط جيو-فني يربط القاهرة والإسكندرية بطرابلس، وصولاً إلى حلب”.

يعزو حميصي تلك النجاحات إلى مجموعة من الفنانين، في مقدمتهم عبدالله الحسيني مؤسس “معهد الزهراء” في الزاهرية كـأول مدرسة للتمثيل داخل المشرق العربي خلال عام 1951، وتتلمذ على يديه كبار من نجوم تلفزيون لبنان الذي انطلق عام 1959، و”ليس غريباً أن تكون أبرز الأسماء خلال تلك المرحلة من طرابلس، وفي مقدمها فرقة أبو سليم، وفرقة القصص الشعبي بقيادة محمد ميقاتي، ومساهمات لافتة باللغة العربية الفصحى لكل من الطرابلسيين عبدالكريم عمر وأحمد بديعة ونزار ميقاتي، وماجد أفيوني وعوني المصري”. و”شهد لاحقاً المخرج والكاتب شكيب خوري والمغنية الممثلة الإذاعية سعاد هاشم بفضل عبدالله الحسيني على الممثلين والسينمائيين اللبنانيين الأوائل”.

 

يستذكر حميصي أمجاد مسرح الإنجا في ساحة التل، القلب الفني في طرابلس، واستضافة عروض النجوم الكبار كافة من أم كلثوم ومنيرة المهدية ومحمد عبدالوهاب، وعلي الكسار ويوسف وهبي وآخرين. ويستحضر محمود حميصي أهم أستاذ لعزف العود في المنطقة العربية، الذي يعود إليه الفضل في اكتشاف سهام رفلي (اسمها الحقيقي فاطمة قصب زوجة رفلي أفيوني) ابنة ساحة الدفتار في طرابلس، والمشهورة بأغنية “حول يا غنام حول” التي بلغت شهرة عظيمة في حلب وبغداد وحيفا والقاهرة. ويعود الفضل لذاك المسرح في التلاقح الحضاري بين الممثلين الأجانب ومعلمي فنون الأداء والمواهب المحلية.

“لست مجرد ممثل إيمائي”

اعتاد الصحافيون على تعريف فائق حميصي برائد الفن الإيمائي في لبنان، وهي صفة يفتخر بها، فهو قدم أداءً فريداً في هذا النوع المسرحي، جعل منه علامة فارقة في المشهد الفني. ولكن في المقابل، يعتقد حميصي أن “ثمة اعتياداً لدى اللبناني، فهو في حال وضع شخصاً في قالب معين، يصعب عليه الاقتناع أن للشخص قدرات فنية متنوعة، علماً أن بإمكان الإنسان أن يكون متعدد المواهب، لا بل إن من واجب الفنان المسرحي أن يتقن فنون الأداء المختلفة، على مستوى الغناء والرقص والتمثيل والإيماء، فهو يحصل في الجامعة على شهادة ممثل قبل أن يتقن ويتخصص في واحد من تلك الفنون”. ويلفت: “شاءت الأقدار أن أجيد تلك المهارات، بدءاً من مرحلة الطفولة في فرقة الكشاف، ومن ثم تعلم فنون الإيماء الذي نظر إليه الناس بتعجب، لأن شاباً لبنانياً يضاهي الأوروبيين في أدائه”. ويعتبر أن “المسرحيات شكلت مع الأخوين رحباني تتويجاً لمسيرة الاعتراف بالموهبة، إذ أبدع منصور الرحباني في الإخراج المسرحي، والدمج بين الأداء المسرحي والدرامي للمؤدين، والمشاهد الغنائية”.

يرفض حميصي صبغ الفنان بطابع محلي أو مناطي على رغم أنه “يعرف بنفسه أنه فنان من طرابلس، لأنه تعلم في المدينة فنون الأداء كافة على يد أسعد وأبو سليم”، قائلاً: “من وقف في الظل لا ظل له”، و”على الفنان أن يقدم منتجاً فنياً جيداً ويعرضه ليقتنع به المشاهد والمنتج”.

فن يشبهنا

شكل مسلسل “حلونجي يا إسماعيل” نقلة نوعية للفنان فائق حميصي باعتباره العمل التلفزيوني الأول والوحيد من كتابته، وعرض على شاشة تلفزيون “المستقبل”. وعلى رغم مرور نحو ثلاثة عقود، ظلت شخصياته حاضرة في يوميات اللبناني، وتحديداً تلك التي جسدها الممثل اللبناني عباس شاهين في دور إسماعيل، وزوجة عمه الفنانة عايدة صبرا في دور نجاح. ويردف حميصي: “أصررت على تصوير المسلسل في أحياء بيروت الشعبية، ليعكس الحياة الحقيقية لأبناء المدينة، عوضاً عن الاستديو الاصطناعي، وسمحت للسكان بإكمال حياتهم المعتادة والدخول والخروج من دون النظر المباشر إلى الكاميرا”.

يعتقد حميصي أنه “أطلق من خلال المسلسل نمطاً جديداً من الدراما التلفزيونية التي تشبه الناس، وتهتم بالتفاصيل والديكور البسيط غير الباذخ أو المصطنع”، “وتضمن نقداً ضمنياً لبعض مدعي الثقافة من خلال شخصية مترجم الكتب في إحدى الصحف، وخداعه الناس”.

مطالب مهنية  

 يحمل فائق حميصي هموم “المطالب المهنية الطبيعية” للفنان اللبناني، فهو وعلى رغم إقراره بـ”الحصول على ما يستحق فنياً في لبنان”، و”تقديم أعمال تلفزيونية مهمة بين عامي 1987 و1994، جعلته أحد النجوم الأوائل على الشاشة الصغيرة، مثل “ربيع الحب” وشخصية صلاح في مسلسل “عريس العيلة”، إلا أنه “يطالب بضرورة إعطاء الممثل اللبناني حقه المادي”. ويجزم: “أنا لا أقدم تنازلات عكس قناعاتي، وعندما عرضت علي بعض الأعمال طالبت بـ10 أضعاف المبلغ المعروض لتأمين تقاعده، ففي لبنان لا تعطي شركات الإنتاج أي بدل مادي لقاء إعادة العرض ولا تحفظ حقوق الممثل”. ويشير إلى أن “في فرنسا، حقق بعض المغنين ثروة من رواج أغنية واحدة، وبسبب احترام الملكية الفنية يظل يتقاضى البدائل المادية باستمرار”، و”الفنان ليس مجرد رسول للفن بل هو يمتهن عملاً محدداً، ولا بد من حصوله على حقوقه المادية”.

 

يعترف حميصي أن “مطالبه المهنية” كانت سبباً لابتعاده نسبياً من الدراما التلفزيونية، لأن “من غير المقبول أن تطلب بعض شركات الإنتاج من الممثل إحضار ملابس للدور من منزله”، ويسأل: “هل يجوز الطلب من الفنان أن يحمل خزانة ملابسه الشخصية على ظهره؟”، منوهاً بأن “بعض الشركات تفهمت وجهة نظره واشتغل مع عدد محدود منها، وهو ما قاده إلى تقديم عمل تلفزيوني مع شركة “الصباح” في مسلسل، وأخيراً من خلال دور الزوج إلى جانب الممثلة العريقة منى واصف، والتعاون مع طانيوس بو حاتم في “أوتيل الأفراح” المسلسل الشهير.

“نحتاج إلى أعمال تشبهنا”

يتطرق حميصي إلى “الدراما المعربة” التي يصنفها ضمن خانة “الموضة”، لأن “اقتباس أي عمل درامي تركي أو هندي أو مكسيكي سيبقى قاصراً، لأنه يعتمد على ممثلة جميلة أو شاب جذاب ولا يعكس قيمنا”، و”هو أشبه بتركيب شنب اصطناعي لراقصة باليه”. ويعد أن “ثمة تقصيراً كبيراً في حال لم نجد كتاباً قادرين على عكس بيئتنا”. في المقابل، يرحب بتقديم أعمال مستوحاة من الأدب العالمي، على غرار الأعمال التي نقلت “أحدب نوتردام” إلى الشاشة، أو أعمال شكسبير.

تشكلت قناعة لدى فائق حميصي مفادها أن البيئة الفنية غير ملائمة للممثل اللبناني، لذا أعطى جزءاً كبيراً من وقته للتعليم والتدريب، ودمج التمثيل المسرحي في قلب التربية من أجل تعزيز شخصية الطالب وتقوية قدرته على التعبير والتواصل، وتنمية الطاقات الكامنة وحل المشكلات الشخصية. وسعى خلال مسيرته التعليمية إلى تكوين بيئة فنية متعددة الأبعاد، من خلال انفتاح فنون الأداء على الرسم التشكيلي في معهد الفنون، وتنمية “تقنيات الرسم الجسماني بالفراغ”.

البصمة أولاً

 

يدعو حميصي الفنانين إلى تقديم الأعمال التي تشكل “بصمة فنية” ومعالجة القضايا الجديدة، كما فعل الفنان زياد الرحباني الذي لم يهتم بتحقيق النجومية بقدر الابتكار وتقديم أعمال فنية مختلفة وحقيقية على مستوى التأليف الموسيقي، وتركيب الأغاني ودمج الإيقاعات العربية والأجنبية. لأن “الفنان الحقيقي هو من يبتكر ويعالج القضايا بصورة لم يسبق أن طرق بابها أحد”، ويقول: “الذاكرة الجماعية تحفظ حقاً وتعترف لمرحلة طويلة بالشخص المتميز كسيد درويش وأم كلثوم، بينما تسقط أسماء أخرى كانت بمثابة نجوم في زمانها ولكن لم تحقق أية قفزة نوعية.

 يستهجن حميصي “استنساخ” بعض الشخصيات والأدوار التمثيلية، أو حتى حصر بعض الفنانين في أدوار معينة، منتقداً قيام بعض بتكرار الشخصية نفسها في أعمال مختلفة لمجرد البقاء على الشاشة، وهو ما يؤدي إلى الخلط في ذهن المشاهد. ويستشهد بمسيرة الممثل الأجنبي “ديك فان دايك” الذي لم يقدم إلا أعمالاً قليلة بسبب طريقته المميزة في الأداء، وهو ما ينطبق على شارلي شابلن الذي كان يصر على كتابة أدواره.

ورداً على سؤال حول “أزمة الدراما في لبنان وهل هي مشكلة ممثل أم كاتب أم إنتاج”، يعبر حميصي عن رفضه تلك الطروحات، “فهي تكرر نفسها منذ أن بدأنا مسيرة التمثيل، وعلى رغم التراجع الكمي للعمل المسرحي فإن ثمة حيوية. واستمر الفنانون في تقديم الأعمال خلال الحرب، وكان المسرح ملاذاً للهاربين من الأهوال. لقد قدمنا مسرحية “بالنسبة إلى بكرا شو” مع زياد الرحباني في أوج الحرب الأهلية، ولاقت نجاحاً كبيراً”.

يقارب حميصي مسألة “الالتزام والفن”، ويرى أن “يجب على الفنان الالتزام بالفن وعدم ممارسة الدعاية السياسية بمختلف صورها، وهي مرحلة انتهت إلى حد ما، فالفنان أكثر خلوداً من السياسي. فعلى سبيل المثال يعيش شكسبير معنا لغاية الآن، ولكن لا أحد منا يعلم من هو الملك أو الوزير في حينه، لأن التاريخ يكتب بالحضارة وليس بالسياسة”. ويستحضر تصنيف عاصي الرحباني الفنانين المؤدين إلى نجم لماع وصاحب تمثيل نمطي، وثوري أسير أفكار محددة، ومتمرد على القوالب الجامدة، وقد “تحول بعض النجوم الكبار إلى أسرى القوالب النمطية التي خلقها المخرجون، وقيدت موهبة توفيق الدقن وفريد شوقي ومحمود المليجي في بداية مسيرتهم، بحيث بات المشاهد مدركاً بصورة مسبقة لدور أحدهم في الفيلم قبل مشاهدته حتى”.

بشير مصطفى

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: المحتوى محمي !!