“فاطمة” في مسرحية غنام غنام تقاوم بمقعد متحرك
الفلسطينية التي أقعدها القصف الإسرائيلي ترفض التصالح

ملخص
قدم الفنان الفلسطيني غنام غنام، عرضه المسرحي الجديد “فاطمة الهواري لا تصالح” على مسرح السامر في القاهرة، وتناول فيه قصة ابنة مدينة “ترشيحة” الفلسطينية التي أصيبت بالشلل جراء القصف الإسرائيلي لمدينتها، وعندما جاء إليها الطيار الذي شارك في القصف، معترفاً بفعلته، طالباً منها قبول اعتذاره، رفضت طلبه، وسردت أسبابها.
قبل بداية العرض المسرحي ” فاطمة الهواري لا تصالح” كتابة وإخراج الفنان الفلسطيني غنام غنام على مسرح السامر بالقاهرة، ظل ممثلو العرض الثلاثة أكثر من 10 دقائق على المسرح، يتحدثون ويمارسون بعض التدريبات والحوارات الجانبية ويتبادلون القفشات، بل إن أحدهم (غنام غنام) هبط إلى صالة المسرح وصافح بعض الضيوف والتقط معهم الصور التذكارية.
ربما لم يكن هذا السلوك مجانياً، هو في ظني مقصود، وأراه جزءاً من العرض، ليس لكسر الإيهام وإشعار الجمهور بأننا بصدد ممارسة لعبة مسرحية وحسب، بل للتأكيد أيضاً على نفي فكرة التقمص، أو أننا أمام ممثلين دخلوا في الشخصية وتوحدوا معها، فالأمر هنا لا يحتاج إلى التوحد أو التقمص، فالحكاية أساساً هي حكايتهم وحكايتنا التي تحفظها الذاكرة ويستعصي عليها نسيانها.
أكثر من ذلك، وإمعاناً في التأكيد على أن الحكاية حكايتنا جميعاً، فقد اختلف ممثلان (التونسية أماني بلعج والأردني أحمد العمري) في تفسير مصطلح مسرحي أثناء العرض، فبادر غنام غنام بذكر أسماء بعض من في الصالة من نقاد وكتاب، مؤكداً أنهم يعرفون أكثر.
هي بالتأكيد لعبة مسرحية، المقصود بها محو المسافة بين الخشبة والصالة، وإشاعة أجواء من الدفء الإنساني، توحد بين المرسل والمستقبل، وتيسر العمليتين (الإرسال والاستقبال) وظني أنها تقنية مستمدة من ثلاثية غنام السابقة (عائد إلى حيفا، سأموت في المنفى، وبأم عيني) التي اعتمدت على الحكي بواسطة ممثل واحد، والدخول في حوارات وأسئلة مع الجمهور.
حدث بالفعل
النص الذي كتبه غنام غنام واقعي، أي إن أحداثه حقيقية وليست من خيال الكاتب، باستثناء ما تفرضه الضرورة الفنية، يتناول حكاية فاطمة الهواري التي ظلت مدينتها ترشيحة شمال الجليل، مستعصية على الاحتلال الإسرائيلي ستة أشهر كاملة، حتى قام بقصفها بالطائرات في الـ28 من أكتوبر (تشرين الأول) عام 1948، وبسبب القصف فقدت فاطمة كل أسرتها، وفقدت كذلك خطيبها الذي كانت تستعد لزفافها إليه، كما أصيبت بالشلل، وكان عمرها 18 سنة.
يأتي إليها الطيار الإسرائيلي أبي ناثان في بداية التسعينيات من القرن الماضي بصحبة كاميرات “سي أن أن” CNN، وبعد مضي 47 عاماً على الواقعة، معتذراً وطالباً منها السماح والتصالح، لكنها قالت له ماذا أفعل بأسفك، هل ستعيد لي أبي وأمي، هل ستعيد كل من هجروا من أرضهم، قال لا، قالت لماذا تتأسف إذاً، لقد قتلتني مرتين، مرة بجسدي، ومرة بذاكرتي، أطلب من الله أن أراك على كرسي متحرك مثلي. وبعد فترة ذهبت مجموعة من الشباب إلى هذا الطيار ليوقع لهم على ورقة التأمين الصحي لصرف تعويض لفاطمة، فوجدوه على كرسي متحرك ولا يستطيع الكلام.
هي بالتأكيد واحدة من مئات وربما آلاف الحكايات التي شهدتها، ولا تزال، فلسطين المحتلة، وما فاطمة إلا رمزاً يجسد مقاومة المرأة الفلسطينية وقدرتها على الصمود، ويؤكد أنه لا تصالح بعد الدم.
كم من فاطمة ستخرج من غزة لتروي حكايات الدم والإبادة التي كتبها جيش الاحتلال في أبشع مجزرة شهدها هذا العصر؟
فخ الخطابة
وعلى رغم ما في الحكاية من تجسيد لبشاعة الاحتلال وصلفه ولا إنسانيته، في مقابل كل هذا الصمود والإصرار على استعادة الحقوق المغتصبة، فقد تجنب العرض المسرحي الوقوع في فخ الخطابة، وأدرك صناعه أنهم بصدد عمل فني، لا منشور سياسي، وأن أدواتهم قادرة على توصيل رسالة محملة بالجمال لا بالأسى، بل محملة بالفرح والزهو، فلا بكاء هنا ولا تشنج، ولا دخول في “ميلودراما” لغرض استمالة الجمهور، فكما كانت فاطمة الهواري قوية في موقفها، لا تعرف التخاذل، ولا تغريها أية مكتسبات، كان العرض كذلك قوياً من ناحية خطابه وصناعته، عبر التمثيل والغناء والحكي والموسيقى والإضاءة. كلها عناصر اتسمت بالرهافة والذكاء، وأحسن توظيفها.
لا ديكور تقريباً، سوى بعض الـ”موتيفات” البسيطة، على يمين المسرح ما يمكن وصفه، مجازاً، غرفة فاطمة الهواري، منضدة صغيرة عليها بعض الأدوات، وكرسي متحرك، ومشجب معلقة عليه كوفية فلسطينية، وعلى اليسار منصة صغيرة، وفي العمق “بانوهان” يستخدمان كشاشتي عرض، بينما تنساب موسيقى ماهر الحلو، مشاركة في شحن الدراما في سخونتها وتوتراتها، وكذلك في نعومتها وصفائها، وإضاءة ماهر الجريان التي كانت واعية إلى ضرورة الإنارة على وجوه الممثلين لإبراز تعبيراتها بدقة، بخاصة في المواقف التي يتصاعد فيها الصراع، فضلاً عن أدائها لوظيفتها الجمالية كواحدة من عناصر الـ”سينوغرافيا” التي تسهم في إغناء الصورة وشحن دلالاتها.
نصر معنوي
حقق العرض نصراً معنوياً بهذه السردية الجمالية، على سردية القبح والدم التي يمثلها الاحتلال الإسرائيلي، ليؤكد قوة الذاكرة العربية ورسوخها، وصعوبة، أو استحالة، المساومة على الدم، مما انعكس على الأداء التمثيلي. فبدت التونسية أماني بلعج متشربة للحكاية، أو ذائبة فيها، متقنة للهجة الفلسطينية، وكأنها تؤكد رسوخ وبقاء هذه اللهجة ومتحدثيها، مراوحة في أدائها بين الرقة والقوة، مؤدية تحولات فاطمة من الشباب إلى الشيخوخة، ومن العافية إلى المرض، بدرجة عالية من الإقناع، واعية إلى توظيف جسدها وطبقات صوتها بما يتماس والحال أو الموقف الذي تجسده، فكانت نموذجاً للأداء المحب، أي إنها عكست في أدائها حبها لشخصية فاطمة وإيمانها بقضيتها وإعجابها بموقفها كامرأة فلسطينية لم ينل من عزيمتها المرض أو الاحتلال الذي هو أبشع وأقوى من أي مرض.
وبالدرجة نفسها من الإيمان بالقضية قام الأردني أحمد العمري بدور قريب فاطمة، وكذلك دور الطيار الإسرائيلي أبي ناثان، متحولاً بنعومة بين هذا وذاك، وقادراً على الإمساك بتفاصيل الشخصيتين، على رغم البون الشاسع بينهما.
أما غنام غنام الذي كان حضوره أشبه بالطيف، إذ أدى دوراً صغيراً، فكان طيفاً بالفعل يمثل شخصية رمزي، خطيب فاطمة الهواري الذي يخبرها بما جرى، وكأنه يعيدنا لشبح والد هاملت المغدور من أخيه، لكنه هنا يؤكد أيضاً حضوره كرمز باقٍ وحي، على رغم غيابه الفيزيقي، وربما يكون اسم رمزي هنا مجلوباً لذاته وليس اسماً واقعياً لخطيب فاطمة الهواري.
عرض “فاطمة الهواري لا تصالح” بخطابه الجمالي وبنعومته وبساطته، يعد وثيقة فنية دالة وملهمة، ورسالة إلى الأجيال الحالية والمقبلة، تشير من ناحية إلى قدرة الفن على إحداث أثر قوي وعميق وباقٍ، ومن ناحية أخرى تشير إلى أن لا مساومة على الدم، أيّاً كانت الإغراءات، فصوت الجرح يرتفع دائماً بكلمة واحدة “لا تصالح”، بخاصة إذا كان صوت الباطل مستمراً ولا يكف عن استنزافنا، روحياً وجسدياً، ويطيح في طريقه بكل معاني الإنسانية والشرف.
يسري حسان – إندبندنت عربية


