أخبار مسرحية

مروة وهدان تكتب: فاطمة الهوارى.. الذاكرة التى لا تُصالح

يقول بول ريكور فى كتابه (الذاكرة.. التاريخ.. النسيان): “إن الذاكرة صراع ضد النسيان، وواجب الذاكرة هو حض على عدم النسيان”، والذاكرة فى القضية الفلسطينية هى الحصن الأول للمقاومة، ومازال لنا وجود واستمرار لأننا نقاوم بالحكى والتذكر، وهذا الحكى هو جسر يصل بين ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا، ويربط الأجيال القادمة بفلسطين من خلال ما نرويه “نحن”، وبذلك تصبح “الذاكرة” حافظة لتراثنا وتاريخنا، وملاذًا يحمي هو ويتنا من النسيان والاندثار.

فى هذا الإطار تأتى مسرحية (فاطمة الهوارى.. لا تصالح) -التى عُرضت على مسرح السامر ضمن فعاليات مهرجان إيزيس الدولى لمسرح المرأة- بوصفها مسرحًا وثائقيًا يعيد إلى الحياة قصة قرية عربية منسية هي (ترشيحا)، ويجسّد سيرة امرأة فلسطينية صارت رمزًا للصمود ومواجهة الاحتلال ورفض الاستسلام: (فاطمة الهواري).

تقع قرية ترشيحا على جبل المجاهد شمال فلسطين في الجليل، ويطلق عليها اسم “عروس الجليل”، حدثت على أرضها العديد من المعارك قبل نكبة 48، وتظل هذه القرية شاهدة على نضال وصمود وبسالة أبنائها أمام المحتل الصهيوني.

كانت ترشيحا مصدر رعب لليهود، واعترفوا في تقاريرهم العسكرية بمتانة التحصينات في ترشيحا واستبسال أهل البلدة.

بعد ظهر يوم الخميس 28/10/1948، سقطت ترشيحا حين أقبلت طائرات العدو من الجهة الشمالية الغربية وحلّقت فوق ترشيحا، وظن الناس أنها طائرات سورية قادمة لمواجهة العدو، ولكنها لم تكن كذلك، وبعد ساعة بدأت قذائف المدفعية تسقط على ترشيحا. وقد قدّر مجموع القذائف في الساعة بحدود خمسين قذيفة واستمر القصف طوال الليل. بعد ذلك في يوم 29/ 10/ 1948، شوهدت ثلاث طائرات قادمة من شمال البلدة وإذ بها تقذف حملها على البلدة، أسقطت براميل متفجراتها على بيوت ترشيحا، ووقع البرميل السادس في بيوت دار الهواري!

وللتاريخ نقول إن ترشيحا صمدت وكانت آخر بلدة سقطت في فلسطين كلها، والفضل لذلك يعود إلى صمود أهلها صموداً يسجله التاريخ لهم، ولكن الدمار الهائل الذي أحدثه القصف جعل أهل البلدة يرحلون، ولكن رفض أهلها الذل والاستسلام عن طريق المفاوضات. ولم يستطع الصهاينة أن يدخلوا إلى البلدة إلا بعد ثلاثة أيام من رحيل أهلها والمقاتلين فيها وكانوا لا يدخلون بيتا إلا قذفوا بداخله عشرات الطلقات خشية أن يكون في البيت مقاتلون.

من بين المنازل التي تعرضت لقصف شديد من قِبل ثلاث طائرات إسرائيلية، منزل فاطمة محمود الهواري، واستشهد خلال القصف زوجة أخيها وزوجة عمها وجدتها وأولاد عمها الأربعة وزوجة خالها وابنتها، أما هي فقد تم انتشالها من تحت الردم لكنها أصيبت بالشلل الذي أقعدها حتى الموت. شاركت فاطمة الهواري في فيلم “عروس الجليل” عام 2006 للمخرج “باسل طنوس” والذي جسد قصة ترشيحا أثناء الاحتلال والقصف الذي تعرضت له البلدة و تعرض له بيت فاطمة الهواري.

أما القاتل فهو “داعية سلام” كما يُروج له الإسرائيليون “إيبي ناتان”، كان قائدا لإحدى الطائرات التي قصفت ودمرت ترشيحا. قبل سنوات من وفاته، وبعد أن اشتهر بدعوته للسلام زار فاطمة الهواري في ترشيحا طالبا أن تغفر له، وحاول أن يعتذر لها، أما هي فقالت إن دموعه لم تعن لها شيئاَ، ولن تسامحه أبدًا لأن دموعه لن تعيد عالمها المسلوب، تدور الأيام ويُصاب “إيبى ناتان” بسكتة دماغية ويظل في صراع مع المرض حتى وفاته عام 2008.

في ظل ما يحدث الآن حولنا من نكبة ثانية ومحاولات مستمرة لتهجير الفلسطينيين قسريًا من غزة، وتمسكهم بالبقاء في أرضهم رغم الدمار والقصف المحيط بهم، التقط المخرج “غنام غنام” هذه القصة وسط آلاف القصص الإنسانية الفلسطينية المؤثرة التي تحكي وقائع نكبة 48 والتهجير القسري، ليسلط الضوء على الإنسان في مواجهة آلة الاحتلال، لكي لا يتحول الإنسان إلى مجرد رقم يُضاف إلى عداد الضحايا، بل يجب علينا أن نشحذ ذاكرتنا دائمًا وأبدًا ونتمسك بماضينا لأنه لا سبيل للنجاة ولا سبيل للمستقبل سوى في ذاكرة التاريخ.

عنوان العرض المسرحي “فاطمة الهواري لا تصالح” يُحيلنا مباشرة إلى قصيدة أمل دنقل الشهيرة “لا تصالح”. بذلك يجد المتلقي نفسه أمام إشارة استباقية تكشف ملامح موقف البطلة قبل أن يبدأ العرض: فاطمة الهواري قطعًا، لن تصالح. غير أن العنوان لا يكتفي بهذا الايحاء المباشر، بل ينطوي أيضا على مراوغة خطابية، إذ يمكن أن يُقرأ بوصفه رسالة موجهة إلى الجمهور ذاته: فاطمة الهواري لن تُصالح… وأنت أيضا، لا تُصالح!

لا تصالحْ!
ولو منحوك الذهب
أترى حين أفقأ عينيك
ثم أثبت جوهرتين مكانهما..
هل ترى..؟
هي أشياء لا تشترى..

أبطال العرض امرأة ورجل، وطيف عابر يتسلل بين المشاهد كأنه صدى للذاكرة وروح للمقاومة (رمزي). تقوم بدور (فاطمة) الفنانة التونسية القديرة (أماني بلعج)، ويقوم بدور (إيبي ناتان) الفنان الأردني (أحمد العمري)، ويقوم بدور الطيف الفنان والمخرج (غنام غنام). اختار المخرج ديكورًا بالغ البساطة، بلا زخارف أو مبالغات، وكأنما أراد أن يُسلّط الضوء على جوهر النص وحيوية الشخصيات، جاعلًا منها البطل الحقيقي للمسرحية. فالبساطة هنا ليست فقرًا بصريًا، بل لغة رمزية تُكثّف المعنى وتحمل إشارات ودلالات. يبدأ العرض لنشاهد بيتًا فلسطينيًا بسيطًا، نميزه من المشجب المعلق عليه الكوفية الفلسطينية، ومن المفروشات ذات التطريز الفلسطيني، وكرسي متحرك تجلس عليه امرأة طاعنة في السن ترتدي زيًا تقليديًا فلسطينيًا لا تُخطؤه العين، إنها (فاطمة الهواري) ذاكرة المكان وجسده. البيت هنا هو رمز الوطن ومكان الأمان الأول كما يقول جاستون باشلار : “ركننا الأول في العالم، كوننا الأول، كون حقيقي بكل ما للكلمة من معنى. “. في المقابل يظهر (إيبي ناتان) بملابس سوداء وقبعة غربية، ليبدأ بينهما حوار طويل مشحون بالعاطفة، يتنقّل عبر الأزمنة من لحظة النكبة حتى الحاضر، وكأن الزمن نفسه جزء من المواجهة.

اللافت في العرض أن “فاطمة”، وهي تسرد حكايتها، تعبر الأزمنة دون أن تغادر خشبة المسرح لحظة واحدة، تنهض واقفة فتعود شابة تروي مأساة قصف منزلها، ثم تعود إلى كرسيها المتحرك لتستحضر ما جرى بعد أربعة عقود حين جاء “إيبي ناتان” يطلب الصفح. على النقيض، يظهر (إيبي ناتان) ويختفي مرارًا، كأن وجوده عابر وظله مؤقت، في إشارة بليغة إلى أن الأرض لا تستجيب إلا لأهلها، وأن (فاطمة الهواري) هي صاحبة الحق والجذور التي لا تُقتلع، بينما الاحتلال مهما طال أمده فهو إلى زوال.

تطرح المسرحية سؤالًا جوهريًا بالغ الحساسية حول إمكانية الصفح والمغفرة فعلًا، إذ يظهر (إيبي ناتان) بعد أربعة عقود في بيت (فاطمة الهواري)، طالبًا منها أن تغفر له قصف منزلها وقتل أسرتها. وهنا يفتح الحوار جرحًا إنسانيًا غائرًا، فالمغفرة بلا شك فضيلة رفيعة لا يقوى عليها إلا القليل، غير أن السؤال يظل مُلحًّا: هل يجوز العفو عن جرائم إنسانية بحجم الإبادة الجماعية، والتهجير القسري، وقتل الأبرياء؟! وهل يكفي اعتذار مجرّد، من غير مساءلة أو عقاب، كي يلتئم الجرح ويستطيع الإنسان أن يمضي قُدمًا نحو المستقبل؟ الجواب في تقديري واضح: لا، إن الصفح “يعني المصادقة على عدم إنزال العقاب، وهو ظلم ما بعده ظلم على حساب القانون، وأكثر من ذلك على حساب الضحايا”.

لا تصالح

ولو قيل ما قيل من كلمات السلام

كيف تستنشق الرئتان النسيم المدنَّس؟

ترفض (فاطمة الهواري) الصفح، وتُخبر (إيبي ناتان) أنها ستسامحه إذا استطاع أن يجعلها تمشي مرة أخرى، وتستمتع بمعنى الحياة الذي فقدته وهي التي كانت على وشك الاستعداد لزفافها، وهو طلب يستحيل تحقيقه مما يعني استحالة الصفح عنه. تقول فاطمة: “لن تشعروا بما فعلتم بنا إلا حين يصيبكم ما أصابنا”، ولكن في رأيي أن فاطمة حسنة النية، فعلى الرغم مما مر به اليهود في فترة الشتات وما تعرضوا له من إهانة ونبذ وما يسمونه محرقة، إلا أن هذا لم يجعلهم أكثر تسامحًا، ولا شعروا بما يصيب الآخرون، بل أمعنوا في القتل والظلم بل والإبادة الجماعية والثقافية أيضًا، والعدوان الأخير على غزة خير شاهد ودليل!

سعى المخرج إلى إضفاء ملامح واقعية على الشخصية الإسرائيلية من خلال إدخال بعض المفردات العبرية في الحوار، غير أن هذا الخيار – في تقديري- كان يتطلب عناية أكبر في تدقيق الأسماء ونطقها، خاصة وأن للمسرحية بعدًا توثيقيًا يتناول أحداثًا وشخصيات حقيقية. وفي ظل ما توفره أدوات الذكاء الاصطناعي اليوم من إمكانات للتحقق، لم يكن من العسير التأكد من أن اسم بطل المسرحية هو (إيبي ناتان) (אייבי נתן)، لا كما ورد على لسان الشخصية المسرحية بصيغة (آبي ناتان).

كذلك أورد المؤلف على لسان (إيبي ناتان) تحية بالعبرية، وهي لفتة ذكية تعبر عن محاولة لإبراز الجانب الواقعي للشخصية، لكن في هذه المرة أيضًا لم تُدقق الجملة العبرية البسيطة، ولم يتم الالتفات إلى أن العبرية تميز بين النوعين المذكر والمؤنث بصيغتين مختلفتين، لذلك عندما كان يوجه التحية لـ(فاطمة الهواري) كان ينبغي أن يقول لها: (ماشلوميخ: عاملة إيه؟) وليس كما جاء في المسرحية: (ماشلومخا: عامل إيه؟).

جاءت نهاية المسرحية تدعو للتفاؤل بشكل كبير، بعد أن يخرج الممثل (أحمد العمري) من عباءة الشخصية الإسرائيلية (إيبي ناتان) ويرتدى الكوفية الفلسطينية، ثم يكشف الطيف العابر (رمزي) عن وجهه مرتديًا الكوفية الفلسطينية ومؤكدًا أن وجوده ليس “رمزيًا”، بل هو واقع لا يمكن إغفاله، ثم تقوم (فاطمة الهواري) من على كرسيها المتحرك لتقف شامخة، وبوقوفها مرة أخرى على قدميها رمز إلى أن الاحتلال حتى وإن جعلها مقعدة، إلا أن روحها ما تزال حرة طليقة تفعل ما يحلو لها. يُكّون الثلاثي معًا صوت فلسطين، مع نزول ألوان العلم الفلسطيني على المسرح، وسماع صوتهم يتردد في أرجاء المسرح: أيها المارون بين الكلمات العابرة.. آن أن تنصرفوا.. وتقيموا أينما شئتم ولكن لا تقيموا بيننا.

ختامًا يمكن القول إن إعادة سرد حكاية (ترشيحا) ليس هدفها التذكير فقط، فدراسة الماضي لا تكتسب قيمتها وجدواها إلا إذا كانت تسهم في حلّ المشكلات الخاصّة بالعصر الحالي، فالفنان يريد من خلال عرضه المسرحي أن يُقدم قراءة جديدة لما هو موثق في التاريخ، من خلال المزج بين ما هو وثائقي، وما هو إبداعي في إطار الدراما، ليعرض أمام المتلقي الحقيقة ولكن في الوقت نفسه يُعد العرض المسرحي جرس إنذار لما يحدث هذه الأيام فالتاريخ يعيد نفسه، وما حدث يمكن أن يتكرر إذا لم نتدارك أنفسنا ونتمسك بجذورنا وأرضنا كما فعلت (فاطمة الهواري)، لتكون هي فارس هذا الزمان الوحيد.. وسواها المسوخ!

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: المحتوى محمي !!