أخبار مسرحية

مسرحية تُجسّد عجز اللبناني بين الهجرة والتجذر

مسرحية تُجسّد عجز اللبناني بين الهجرة والتجذر

ملخص

العلاقة بالوطن ليست دوماً سهلة، بخاصة عندما يكون في حال حرب دائمة كما هي حال لبنان. وهذه الثيمة تحديداً هي ما تعالجه مسرحية “طربوش جدي معلق” لمروى خليل بالتعاون مع مخرجها رياض شيرازي، ليأتي السؤال الأزلي الذي لا إجابة صحيحة عنه: هل يغادر المرء وطنه عندما تندلع فيه الحرب أم يبقى ويناضل على رغم المصائب والنوائب؟

لا تجيب مسرحية مروى خليل ورياض شيرازي عن هذا السؤال، ولا تدعي أبداً في أي موضع من العرض أن الإجابة سهلة. فالمرء الذي يختار البقاء متألم، والمرء الذي يختارالرحيل متألم هو الآخر، فقلب المرء مع وطنه حتى لو سافر.

الرحيل صعب والبقاء صعب وحال اللبناني أنه عالق بين الاثنين، لا هو يجيد الرحيل فيفرح في بلده الجديد، ولا هو يستطيع البقاء لأن الوطن لا يرحم والحرب لا تخفف من سعيرها. فتأتي مسرحية “طربوش جدي معلق” لتنقل حال اللبناني العالق و”المعلق” بين الهجرة والتغرب ومآسيهما وبين الكفاح العبثي داخل وطن لا يشبع من سفك دماء أبنائه كالنمل الذي عندما يجوع يأكل أبناءه.

طربوش معلق ومواطن عالق

يأتي عنوان مسرحية مروى خليل ورياض شيرازي ذكياً ملائماً لموضوعة المسرحية تماماً. عنوان ناقص بسبب الجملة غير المكتملة التي تترك المساحة واسعة للتوقع والتأويل. فمن المتعارف عليه أن العبارة الشائعة هي: “طربوش جدك معلق بالتوتة”، وتعني أن المرء قد ترك طربوش جده في شجرة التوت في قريته ليتذكر جذوره ويعود إليها بعد طول غياب. تعني هذه العبارة تمسك الفرد بأصوله وأرضه ووطنه على رغم الظروف كلها وعلى رغم ابتعاده عن مسقط رأسه. أما العبارة الشائعة الأخرى فتأتي معاكسة للأولى تماماً، وهي: “طربوش جدك معلق ببرج إيفل”، وتعني أن المرء ينتمي بتصرفاته وأقواله إلى الثقافة الفرنسية الغريبة ويعامل الثقافة المحلية بشيء من الفوقية. وتستعمل هذه العبارة عموماً للسخرية من الشخص الذي يميل إلى الغرب بعاداته وتقاليده ومفاهيمه.

 

فتأتي المسرحية بعنوانها غير المكتمل لتعلق الجملة وتعلق المعنى وتوقف المرء اللبناني بين الاحتمالين. أتراه معلقاً بقريته وباقياً فيها أم معلقاً بالغرب وبالهجرة إليه؟ جملة مفتوحة ناقصة تترك في العنوان والعرض والنص فراغاً كبيراً. فلا إجابة صحيحة أو واضحة عن سؤال: أين تراه يجب أن يكون الطربوش معلقاً؟ في الوطن أم خارجه؟

وتقدم هذه المسرحية سرديتين للحلول. يرافق الجمهور شخصية هلا (مروى خليل) التي تمثل نموذج التغرب عن بيروت ومغادرتها إلى باريس فكندا فدبي، وشخصية إبراهيم (جنيد زين الدين) التي تمثل البقاء في الوطن مع العجز عن تركه. ضياع في المكان والهوية والانتماء، ضياع في العلاقة مع الوطن والحب والمستقبل. هل نرحل لننجو أم نبقى لنحمي ما بقي من الوطن؟

ويفهم الجمهور وجع الاثنين، فهلا التي كلما عادت إلى لبنان اضطرت إلى الهرب منه مجدداً بسبب الحروب، تحزن عندما يتهمها إبراهيم بأنها رحلت وارتاحت. كذلك إبراهيم المتمسك بلبنان وعاجز عن تركه يحزن عندما يمتنع عن السفر قائلاً: ليس الجميع قادراً على الرحيل.

نموذجان متعارضان يلتقيان في الوجع وقلة الحيلة. جيل بأكمله عرف الحرب اللبنانية في ثمانينيات القرن الـ20، ومعارك التسعينيات الداخلية، وحرب تموز 2006 وحروب إسرائيل التي لا تنتهي على لبنان، وانفجار بيروت المفجع، وحرب 2024. حروب متراكمة متعاقبة تقتل كل أمل يملكه المغترب بالعودة. وإن عاد فهو لن يلبث أن يوضب حقائبه ويسافر من جديد بعد أول قذيفة ومعركة. أما الطربوش فليس معلقاً في أي مكان للأسف. لم يعد للطربوش مكان يتعلق به، لا داخل الوطن ولا خارجه.

وعلى أن المسرحية بأكملها تحتمل كثيراً من المشاعر التي طال الحديث فيها من حنين ونوستالجيا ومثاليات، على أن الموضوع يمكن أن يغرق في تعريفات الوطن المثالية والمملة التي أكل عليها الدهر وشرب، يلاحظ الجمهور غياب أي لحظة ملل أو وعظ. لا تعريف بالوطن ولا بالوطنية أو الهوية أو المواقف الأيديولوجية. تتملص هذه المسرحية من الكليشيهات كالشعرة من العجينة، ليكون العرض متماسكاً جميلاً ذكياً قائماً على عودات إلى الوراء بدءاً من ملاجئ الثمانينيات وصولاً إلى يومنا هذا. ينقل هذا العرض حال وطن وجيل وذاكرة جماعية لا تنضب من الخسائر والقرارات المهزومة دوماً إنما بظرافة وحذاقة.

وحده الحب

ممثلان اثنان فقط يحملان وزر هذا العمل على أكتافهما، مروى خليل وجنيد زين الدين. عاشقان يقدمان قصتهما وحبهما وحروب وطنهما بكل مهارة وحرفية وتوهج. وبينما اعتاد الجمهور اللبناني أداء مروى خليل الدرامي المتمكن، يتجدد إعجابه بنصها وببراعتها في التنقل بين مختلف الأعمار والسنوات والحالات والدول التي تمر بها شخصية هلا.

كذلك يكتشف الجمهور في جنيد زين الدين ممثلاً رائعاً يتمتع بكاريزما طبيعية وقدرة هائلة على الإضحاك بمجرد نظرة أو كلمة أو حركة. إنما ليس الإضحاك فقط. يتنقل جنيد زين الدين بسهولة بين الأدوار ويظهر عفوية وقدرة عالية في تقمص الشخصيات، فنراه طفلاً فمراهقاً فشاباً فرجلاً، نراه كذلك الحبيب الفرنسي فسائق التاكسي الهندي فموظف الدولة المصري، وغيرها. أدوار كثيرة يجسدها بكل براعة وإتقان وقدرة درامية وكوميدية عالية.

يتابع الجمهور أداء الممثلين الإثنين بكل فضول وتشوق، فعدا عن أن النص مكتوب بحنكة وتماسك يأتي الأداء مميزاً فيه كثير من الظرف والعمق والقوة. يؤدي كل من مروى خليل وجنيد زين الدين دوريهما ببراعة وإتقان، يقبضان على انتباه الجمهور وفضوله طوال العرض. وإذا أردنا تلخيص المسرحية فقد يتم ذلك بسطر واحد لكون النص يدور حول علاقة حب تنشأ بين طفلين وتكبر معهما وتتنقل بين مدن العالم معهما، لكن سطراً واحداً لن يفي مجهود الممثلين وموهبتهما الجلية في تجسيد دوريهما وتقديم النص وحبكته وعمقه.

هرمونيا وانسجام تعززهما سينوغرافيا مميزة تقوم على خلق فضاءات مختلفة على الخشبة الواحدة بفضل توظيف الديكور بحنكة وذكاء. فكل مدينة لها زاويتها وفضاؤها وديكورها وعناصرها البصرية. كل انتقال وسفر له خصوصيته وخيمته التي ترتفع حاملة أبرز معالمه.

“طربوش جدي معلق” مسرحية ثنائي وجيل وبلد معلقين كلهم بحبال الحرب والسلم، بين الأمل والواقع، بين الرغبة بالبقاء وضرورة الرحيل. ثيمة قديمة جديدة لا تبلى ولا تنتهي موضتها، فنحن نعيش في منطقة محفوفة بالموت والحروب. بيروت وحدها ما عرفت سلاماً دام أكثر من 10 سنوات متتالية. يتمسك اللبناني بالأمل، سواء كان داخل البلد أم خارجه. يبقى، يعمل، يستثمر، يخسر، أو يرحل، يعمل، يعود، يخسر فيرحل من جديد. النتيجة دائماً واحدة.

كاتيا الطويل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: المحتوى محمي !!