أخبار مسرحية

“ديل سارتو” بين مسرح دي موسيه وشعر براوننغ

الفن الكبير من خلال معاناة صاخبة لشاعر بريطاني وحيادية باردة لكاتب فرنسي

ملخص

من الغريب هو أن يهتم المبدعون، كتاباً كانوا أو شعراء، بحياة فنان من طينة أندريا ديل سارتو، بحيث يخصصون له = ما لا يقل عن عملين شعريين كبيرين، ظهرا في الآونة نفسها تقريباً، أحدهما على شكل مسرحية شعرية لألفريد دي موسيه، والثاني على شكل قصيدة طويلة لشاعر الإنجليز الكبير روبرت براوننغ

من المتوقع طبعاً أن يهتم الكتاب بحياة فنان من أواخر عصر النهضة الإيطالية مثل كارافاجيو، بالنظر إلى ذلك التزامن بين روعة فنه وغرابة حياته وامتلائها. ومن المتوقع أن ينكب كاتبو السير على حياة فنان كبير مثل ليوناردو دافنشي يستلهمونها، ويحتذي حذوهم سينمائيون وكتاب أوبرا وشعراء وما إلى ذلك من ناحية أن حياة دافنشي نفسه تشكل مادة درامية جوهرية يمكن الاعتماد عليها لخلق كتابات أو أعمال فنية أخرى. فحياة الفنانين الكبار ومعاناتهم بين نسغ الإبداع في داخلهم الذي يخلق لديهم توتراً دائماً، وبين مقتضيات العيش التي غالباً ما تضعهم في عادية مبتذلة، شكلت على الدوام موضوعاً للإبداع نفسه. ولعل ضروب الإبداع المنتمية إلى هذا النوع، تشكل أروع ما تنتجه العبقرية الفنية بين الحين والآخر.

بين شاعر ومسرحي

كل هذا منطقي ومعروف، لكن الغريب هو أن يهتم المبدعون، كتاباً كانوا أو شعراء، بحياة فنان من طينة أندريا ديل سارتو، بحيث يخصصون لتلك الحياة ما لا يقل عن عملين شعريين كبيرين، ظهرا في الآونة نفسها تقريباً، أحدهما على شكل مسرحية شعرية لألفريد دي موسيه، والثاني على شكل قصيدة طويلة لشاعر الإنجليز الكبير روبرت براوننغ، علماً أن العملين اللذين فصلت بين ظهورهما خمس سنوات فقط في أواسط القرن الـ19، يتناولان موضوعاً واحداً من مواضيع حياة هذا الفنان، هو معاناته إزاء زوجته التي تركته وانفصلت عنه. ولكن في حين تبدو المشكلة لدى ألفريد دي موسيه، محصورة تقريباً في هذا الجانب، مما يجعل في الإمكان محو اسم الرسام ووضع أي اسم آخر حتى يستقيم العمل كما هو: مأساة زوج كبر في السن، وها هي زوجته تستعد لتركه مع عشيق لها، فيعرف هو بالأمر ويحاول الالتفاف على الموضوع، للحفاظ على زوجته، تنحو قصيدة براوننغ، وانطلاقاً من الموضوع نفسه، ناحية أخرى تماماً، إذ تكشف من خلال ذلك الظرف نفسه، عمق معاناة الفنان، ليس تجاه المرأة فحسب، وليس تجاه وضع معين يمر به، بل أيضاً تجاه الوجود كله وتجاه الفن في صورة عامة.

من أجل امرأة

في مسرحية ألفريد دي موسيه 1851 لدينا أندريا ديل سارتو، وقد بلغ من العمر عتياً، وها هو يكتشف أن زوجته لوكريسيا اصطفت لنفسها عشيقاً، ثم إذ يتبين له أن هذا العشيق الشاب ما هو سوى كوردياني، تلميذه في الرسم، يستبدُّ به الغضب، وإذ تبلغه زوجته إثر هذا أنها مقدمة على مبارحة الدار يجثو أمامها محاولاً إقناعها بالبقاء، لكنها تذهب، فيتوجه إلى تلميذه محاولاً إقناعه بترك امرأته له، لكن هذا لا يستجيب، بل يدخل مع أستاذه في مبارزة يجرح خلالها، وهنا يسيطر الندم على الرسام ويعيش مأساة باتت الآن مركبة، وحتى حين يبدو له أن الأمور قد هدأت وأن زوجته عادت في متناوله، يشعر أنه فقد سعادته نهائياً ما يؤثر في فنه. ثم في لحظة يأس يتصل بزوجته ويحاول من جديد إقناعها بالعودة على أساس أنه سيموت عما قريب وستصبح هي أرملة ما يمكنها من الالتقاء بحبيبها، لكنه لم يكن يعلم عند ذاك أن العشيق مات متأثراً بجراحه.

حبكة مصطنعة

إذاً نحن هنا، كما هو واضح أمام حبكة مصطنعة، بالكاد تكشف لنا شيئاً عن ديل سارتو الفنان وعلاقة فنه بهذا الفصل الكئيب من حياته، كذلك فإن النقاد، حين عرضت هذه المسرحية، أخذوا على كاتبها عجزه عن تقديم أية خلفية ترسم صورة للحياة الفنية في توسكانا وفلورنسا تحديداً في عصر ديل سارتو. وفي المقابل، أتت قصيدة روبرت براوننغ المعنونة “أندرياس دي سورتو، المسمى الرسام الذي يخطئ”، بعد مسرحية دي موسيه بأربعة أو خمسة أعوام، لتقدم عالماً مختلفاً تماماً، حتى وإن كانت تنطلق من الفصل نفسه من فصول حياة ديل سارتو، إذ إن علاقتها بهذا الفصل علاقة انطلاق لا أكثر. هنا أيضاً لدينا ديل سارتو في ذلك العهد الانعطافي من حياته. ولدينا حكاية زوجته، لكن في هذه القصيدة الطويلة التي كتبها براوننغ وضمها إلى مجموعة له عنوانها “رجال ونساء”، لدينا أيضاً الفنان خلف الإنسان. والمعاناة الفنية كجزء متكامل مع الحياة الإنسانية.

على قياس رافائيل

إذاً، مرة أخرى ها هو أندرياس ديل سارتو، وقد علم أن زوجته ستتركه وترحل، بيد أن من سترحل معه هذه المرة، هو ابن عم لها، وليس تلميذاً له، بل إن رحيل الزوجة لا يبدو أول الأمر نهائياً، كل ما في الأمر هو أنها تريد الخروج مع ابن عمها هذا. وهذه الرغبة هي التي تحرك لدى الفنان كل مخاوفه وهواجسه وتدفعه إلى تأمل وضعه وحياته وفنه، ماضياً وحاضراً، متسائلاً عن مستقبله. إن أندرياس يبدو لنا هنا، منذ الأبيات الأولى للقصيدة، شخصاً مهزوماً مستسلماً، لكنه في الوقت نفسه لا يزال يؤمن، في الأقل، بمقدرته الفنية، بل إنه على قناعة تامة، بأنه مميز عن كل الفنانين الآخرين. إنه نجم الفن بلا منازع، حتى وإن كان هو وحده المؤمن بهذا: مؤمن بأنه يفوق عبقرية كل معاصريه من الفنانين، بل إنه أهم كثيراً من رافائيل معاصره، كما يقول لنا هو نفسه في حديثه الطويل الذي يشكل “مونولوغ” القصيدة. ترى أفلم يكن هو الذي اكتشف ذات مرة خطأ فنياً كبيراً في واحدة من أهم لوحات رافائيل؟ لكن ديل سارتو ما إن يقول هذا معبراً عن عمق إيمانه به، حتى تعود الشكوك وتستبد به: إذ ها هو يشعر في هذه اللحظة أنه مهما كان من أمره، لا يملك نسغ رافائيل ولا عظمته، وكذلك الحال حين يأتي على ذكر ليوناردو دافنشي، ويقول لنفسه أين هو من دافنشي. وهكذا، خلال بعض الوقت، تسير القصيدة وتسير أفكار ديل سارتو، على وقع ذلك التأرجح بين العظمة والدنو، بين تفوقه على الآخرين وشكه في هذا التفوق، بين كونه فنان العصر الأكبر، وسخطه على عقله الشيطاني الذي يقنعه بهذا.

إبراهيم العريس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: المحتوى محمي !!