مسرحية «وسكتت عن الكلام المباح»… لم تستطع حكايات شهرزاد إنقاذ بطلتها
تسلّط الضوء على المرأة المكسورة التي لا صوت لها

تخرج من عرض مسرحية «وسكتت عن الكلام المباح» لعصام بو خالد وكأنك نجوت للتو من حادثة اختناق، فتركض لاهثاً لملاقاة بوابة الخروج الحديدية وتلتقط أنفاسك. تشعر للحظة بأنك ترغب في الصراخ عالياً، فتتأكد عندها أن حنجرتك سليمة. وتتمنى لو استعارتها بطلة المسرحية برناديت حديب كي تفلت من ظلم شهريار.
فهذا العمل المسرحي الذي يُعرض على خشبة «دوار الشمس» في الطيونة حقيقي بحيث يلامس أحاسيسك. وقد عمد كاتبه ومخرجه وبطله عصام بو خالد إلى استفزاز مشاهده الذكوري، وكذلك إلى تحفيز المرأة الأنثى على قلب الطاولة.
ولم ينسَ أن يذكّر في بداية العرض كل من يشعر بالسوء، ويحتاج إلى التحدث عن معاناته أن يلجأ إلى فريق مختص ينتظره في الخارج.
فالعمل هو لعصام بو خالد بمبادرة من مؤسسة «أديان»، وبالتعاون مع سرمد لويس، فيما السينوغرافيا تعود إلى فيكتور داغر.

حبك بو خالد نص المسرحية بواقعية لا شبه فيها. ونقل من خلالها رسالة مباشرة عن حالات التعنيف الحادة التي تتعرّض لها فئة من النساء. وتطلّ الممثلة حديب (زوجة المخرج) على الخشبة لتحمل الرسالة على أكتافها. فتقدّم أداء مبهراً متخماً بالخبرة والمشاعر، فتسرق وهج العمل منذ اللحظات الأولى. فتدرك حينها بأن دورها وحده كان كافياً لاختصار الحكاية بأكملها. فعلى الرغم من أنها لم تنبس بكلمة طوال العرض، وأدّت دورها بصوت مكتوم وجسد مشلول، لكنها تمكّنت من إيصال الرسالة بوضوح.
تحكي المسرحية عن امرأة ممددة جثة هامدة على مشرحة الطبيب الشرعي؛ الكدمات والجروح تغطيها من رأسها حتى أخمص قدميها. تدرك أنها امرأة تعرّضت للتعنيف. وعندما يحضر زوجها للتعرّف إلى الجثة، يراوغ ويكذب ويدّعي بأنه ليس مسؤولاً عن موت زوجته. ثم لا يلبث أن يعترف بذلك معللاً أمر ضربه لها بأنه ينبع من حبّه للحفاظ عليها وصونها من أيادي رجال آخرين. فتستفيق المرأة مصدومة.
يحضر على الخشبة الطبيب الشرعي شربل عون ومساعده علي بليبل. وكذلك المعالج النفسي بالموسيقى أحمد الخطيب. فيقدمون عملاً محبوكاً بالإنسانية وفي الوقت نفسه رشيقاً وهادفاً. فمدته لا تتجاوز الساعة الواحدة، وهو ما أسهم في إبراز محتواه المركّز. وكذلك في جذب الحضور.
ويستخدم بو خالد عبارات معينة لتكون بمثابة مفاتيح كي يتفهّم المشاهد حقيقة المعنّف. وهو أمر من النادر أن يعكسه عالم المسرح والدراما عادة، بحيث تحتلّ الضحية (المرأة المعنّفة) المساحة الأكبر منه.
نتابع صراعاً مدوياً يعلو فيه صوت الصمت على الصراخ، ونعيش حالة انكسار تعاني منها بعض النساء. وكما يقول بطل العمل فإن كلمة «مرا» بالعامية، إذا كُسر حرف الميم فيها تصبح مرآة. فيما لو كسر حرف الراء بكلمة رجل لأشار المعنى إلى القدم ليس أكثر.

حتى عندما يعود بو خالد إلى لحظة تكوين المعمورة، يستخدم صدى الصوت ليعكس معنى كلمة «آدم» فتنتهي بـ«دم دم دم». وعندما تحضر حواء ويلعب صدى الصوت لعبته، لأدركنا أنها تصرخ ألماً «وا وا وا». بهذه الرموز الصغيرة والواسعة المعاني يستطيع مشاهد العمل أن يستنتج رسالته الإنسانية.
امرأة ممددة على المشرحة يحاول الجميع تفسير حالتها. كل منهم يأخذنا إلى منطقته الفكرية وعالمه وعقده. فيتنقّل متابعها بين شخصيات لأربعة رجال وامرأة واحدة، فيحصد دروساً في كيفية تفكيك هذه الشخصيات ومكامن ضعفها وقوتها. وعبرها تكون المرأة العنصر المتلقي. ويبرز عصام بو خالد تحيّزه إلى المرأة، ويصفها بالفرس، فيما ينعت الرجل بطير الباشق، فهو يتحيّن الفرص باستمرار للانقضاض عليها.
المشهد العام للمسرحية قاسٍ ومؤلم، يبلغ أوجه عندما تحاول الضحية أن تخبر من حولها بمعاناتها. ولكنها عبثاً تحاول بصوت مكبوت يصرخ بصمت، ويئنّ تحت أوجاع جسد مثقل وجمجمة تنزف وعينين مفتوحتين، ولكنهما مصابتان بالعمى.
يسرقك أداء عصام بو خالد المتقن، وهو يمثّل شخصية الرجل المعنّف بدقة. ويغوص فيها إلى حدّ ذوبانه، فيصدّقه مشاهده سيما أن مراوغاته تُسهم في إرهاق نفسيته.
أما برناديت حديب فأداؤها يشكّل دروساً في عالم المسرح الإيمائي. تتقمص الشخصية ضحية العنف، وتلونها بلغة جسد تطبع مشاهدها.
«وسكتت عن الكلام المباح» جملة شهيرة استخدمت في قصص «ألف ليلة وليلة». وبطلاها الأساسيان الحاكم شهريار وزوجته شهرزاد. تروي عليه حكايات لا تنتهي لتفلت من عقاب الإعدام الذي ينفّذه على كل امرأة يتزوجها. ومع ذلك فإن قصص شهرزاد هذه المرة، لم تستطع إنقاذ بطلة المسرحية.
فيفيان حداد – الشرق الأوسط



