
ينطوي كتاب «نصوص مجهولة من مسرح المرأة» للناقدة الأكاديمية الدكتورة سامية حبيب، الصادر عن دار «إضاءات» بالقاهرة، على أهمية لافتة؛ كونه يضم نصين مسرحيين مجهولين هما «كسبنا البريمو» للكاتبة صوفي عبد الله، و«سكان العمارة» لجاذبية صدقي، على نحو يكشف كثيراً عن بدايات مسرح المرأة في مصر.
المسرحيتان لم يسبق نشرهما من قبل، وعثرت عليهما المؤلفة بعد عناء البحث في أدراج ومخازن ووثائق مجهولة حول تاريخ المسرح المصري، وذلك أثناء عملها في أطروحة الدكتوراه في فلسفة الفنون، والتي حصلت عليها من «أكاديمية الفنون» بالقاهرة.
وتؤكد الدكتورة سامية أن «كسبنا البريمو» يُعد أول نص درامي يحمل توقيع كاتبة هي الأديبة صوفي عبد الله، وعُرض فوق خشبة المسرح المصري، في النصف الثاني من القرن العشرين في حدود ما وصل إلينا من مراجع ووثائق، فقد شهدت خشبة «المسرح الحديث» عرض هذا النص في موسم 1951-1952، إخراج الفنان حمدي غيث.
ما يلفت النظر أن المسرحية لم تُطبع في كتاب منذ هذا التاريخ، فاعتمدت الباحثة على نسخة الإخراج المكتوبة، كما جرى حفظها في مكتبة المسرح القومي المصري، حيث تدور الأحداث داخل النص في منزل أسرة صغيرة فقيرة هي أسرة «عبد الباسط» العامل الفقير، وزوجته «حياة»، وابنتهما «جمالات». تتعرض الأسرة لضائقة مالية بسبب تعطل الزوج عن العمل لكسرٍ في ذراعه، ما يضطر الزوجة إلى العمل خارج المنزل من أجل إعالة الأسرة، لكن الحمل في طفلها الثاني يعوقها عن الكفاءة في مهنتها، فيضطر صاحب العمل إلى طردها غير عابئ بتوسلاتها وحاجتها الشديدة لعائد بسيط يسدّ رمق الأسرة.
وفي ظل محنة الأسرة، تَعرض «هدية»، التي تعمل «داية»، تقوم بتوليد النساء، وفقاً لعادات اجتماعية قديمة، وتُشرف على متابعة حمل «حياة»، فكرة أن تبيع الأخيرة الطفل المنتظر إلى سيدة ثرية لا تنجب؛ هي «إنجي هانم»، مقابل مبلغ كبير من المال يُنقذ الأسرة من حالة العوز التي تعانيها. وتوافق حياة وتقنع زوجها عبد الباسط بالموافقة. وأثناء انتظار ولادة الطفل، تقوم «هدية» باستضافة «حياة» في منزلها، لكن المصادفة تمنع إتمام الصفقة، إذ يقوم ابن «هدية» بإبلاغ الشرطة بما تُزمع والدته القيام به من شراء ابن «حياة». وعندما يحضر ضابط الشرطة ويعلم بالصفقة المشبوهة يستدعي طبيباً لإسعاف «حياة»، حيث تظهر، أثناء عملية الولادة، مصادفة أخرى وهي أن الطبيب قريب لزوج «إنجي هانم»، التي تنوي تبنِّي الطفل المنتظر لتحتفظ بثروة زوجها وتمنع أبناء أشقائه من ميراثه ومن بينهم الطبيب الشاب.
ويأتي الحل في نهاية المسرحية على يد هذا الطبيب النبيل، إذ يصحب «إنجي هانم» إلى المنزل، دون أن تحصل صفقة شراء الطفل، مُذكّراً إياها بحُرمة ما تفعل ويجعلها تترك المال الذي كانت تنوي شراء الطفل به للأسرة المعوزة. كما يَعِد الطبيب الزوج المريض عبد الباسط بالعلاج ليستعيد عافيته وقدرته على العمل مرة أخرى، وتنتهي المسرحية بحل مشكلة الأسرة الفقيرة وعقاب «الداية» والسيدة الثرية عقاباً أخلاقياً.
وتشير الدكتورة سامية حبيب إلى أنه بعد قراءة المسرحية تَسهل ملاحظة هيمنة الطابع الميلودرامي، بما يتضمنه من مبالغة غير مبرَّرة، على بناء الأحداث، حيث تميل الميلودراما إلى الصدفة في بناء وحل الأحداث، لذا تشتمل على عناصر خارقة مثل الأشباح والعرافين والأحلام ومظاهر كثيرة للغيبيات التي تحكم فكر الشخصيات وسلوكهم، وهو ما نجده داخل النص، مثل قراءة الفنجان، واستخدام التعاويذ السحرية، كما نجد الأحلام مثل حُلم «حياة» بوالدها المتوفى وهو يضربها بقسوة عقاباً لها على بيع ابنها بالمال، الأمر الذي تَعدُّه إنذاراً لها بغضب خفي من القدَر وشرٍّ سوف يحل بها.
كُتبت مسرحية «كسبنا البريمو» في مطلع الخمسينات، وتُقدم صورة لمعاناة الشعب المصري آنذاك بجرأة يَصعب أن نجدها في نصوص المرحلة نفسها التي حفلت بمسرحيات تاريخية صِيغت شعراً أو بلغة عربية فصحى تليق بشخصيات من الملوك والأمراء وحملت اسم كبار الكُتاب والشعراء، ولكن عندما دخلت كاتبة شابة المسرح أنتجت نصاً واقعياً بكل تفاصيله.
ضمَّت المسرحية مجموعة مهمة من كبار الفنانين ممن عرفهم تاريخ المسرح المصري، والذين كانوا، حينها، في بداية طريق الاحتراف، مثل سميحة أيوب في دور «حياة»، وحمدي غيث في دور «عبد الباسط»، كما شهدت المسرحية مشاركة الفنان حسن يوسف حين كان لا يزال طالباً بمعهد الفنون المسرحية.
أما مسرحية «سكان العمارة» فعُرضت على خشبة المسرح القومي في عام 1955، من إخراج يوسف وهبي، ولم يذكر أيُّ مرجع تاريخ كتابة جاذبية صدقي للنص ولا ظروف إنتاجه وعرضه بالمسرح العريق، كما لا نعرف ملابسات تصدِّي رائد المسرح المصري لإخراجها. كل ما نعرفه أن العمل يُعد تجربة الكاتبة الأولى في المسرح، حيث عُرفت من قبله بصفتها كاتبة قصة قصيرة ومقال صحافي، ثم كتبت بعد ذلك مسرحية «ليت الشباب» 1971، وعُرضت في العام نفسه على «مسرح الجيب» بالقاهرة.
تتعدد شخصيات «سكان العمارة» من سادةٍ أصحاب أراض زراعية ومصانع، و«هوانم»، في مقابل نماذج من الخدم العاملين في بيوت هؤلاء السادة، لذا فالنص يندرج تحت ملامح الدراما الاجتماعية، فنجد به العلاقات الاجتماعية والطبقية بين الشخصيات من سكان العمارة وخَدَمهم وتداخل المصالح الشخصية والمال والجاه، مع الإشارة إلى صعود الطبقة العاملة بقِيمها المختلفة عن قيم الأثرياء كعناصر مهمة في حركة الدراما داخل النص.
يلتقي خدام سكان العمارة معاً يومياً في أعلى العمارة «السطوح» مع غاسلة الملابس «أم إبراهيم»، ويتبادلون أخبار السادة ويتناولون حياتهم بالتعليق والتحليل، وفي أحيان كثيرة بالسخرية والاستهزاء من حماقات هؤلاء السادة وأفعالهم المُشينة. تعتمد الكاتبة جاذبية صدقي في تقديم الشخصيات كلها على تكنيك المقابلة بالتضاد بين الشخصية السلبية والشخصية الإيجابية، ويطرح النص صورة شديدة السلبية للأثرياء، مقابل صورة إيجابية للفقراء. يتكثف الصراع درامياً في مقابلة أخرى بالتضاد بين شخصين هما «بكير بك» الثري صاحب المصانع، وبين «مرزوق» الفلاح الشريف المخلص لصاحب الأرض الأصلي، فالأول رجل عابث يبدّد ثروته على النساء وشرب الخمر إلى أن تبلغ ديونه للتجار المتعاملين معه حداً يدفعهم لمقاضاته، ويتعرض لحكم محكمة بالحجز على مصانعه.
اعتمد البناء الدرامي للنص على القواعد الكلاسيكية، وأسهم حوار الخدم فوق سطح العمارة في تقديم معلومات عن السادة وصورة حقيقية لهم دون الرتوش التي تضيفها المظاهر الاجتماعية الزائفة.
رشا أحمد – الشرق الأوسط



